إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد ، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه. والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة ، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه.
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص .. يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافا جوهريا أصيلا. فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة. لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي ، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية.
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له ؛ فيحيا فيه هذا التصور ، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية ، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه. وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة.
هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة. الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص ، وترجع إلى ميزان واحد تقوّم به كل ما يعرض لها في الحياة ، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله ، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض .. والأخوة في الله. كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة ، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار. الإيثار المنطلق في يسر ، المندفع في حرارة ، المطمئن الواثق المرتاح.
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى ـ في المدينة ـ على هاتين الركيزتين .. على الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله ـ سبحانه ـ وتمثّل صفاته في الضمائر ؛ وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال. وعلى الحب. الحب الفياض الرائق ، والود. الود العذب الجميل ، والتكافل. التكافل الجاد العميق .. وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغا ، لو لا أنه وقع ، لعد من أحلام الحالمين! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة! وهي قصة وقعت في هذه الأرض. ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان!
١٠٦ ـ وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان ..
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف ؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها ـ من أهل الكتاب ـ ثم تفرقوا واختلفوا ، فنزع الله الراية منهم ، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية .. فوق ما ينتظرهم من العذاب ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه :
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ : أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ..
١٠٧ ـ وهنا يرسم السياق مشهدا من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية .. فنحن في مشهد هول. هول لا يتمثل في ألفاظ ولا في أوصاف. ولكن يتمثل في آدميين أحياء. في وجوه وسمات .. هذه وجوه قد أشرقت بالنور ، وفاضت بالبشر ، فابيضت من البشر والبشاشة ، وهذه وجوه كمدت من الحزن ، واغبرت من الغم ، واسودت من الكآبة .. وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه. ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب :
(أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ!) ..