وليس لدينا تاريخ محدد لنزول آيات الحج هذه إلا رواية تذكر أن قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) نزلت في الحديبية سنة ست من الهجرة. كذلك ليس لدينا تاريخ مقطوع به لفرضية الحج في الإسلام. سواء على الرأي الذي يقول بأنه فرض بآية : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) .. أو بآية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) .. الواردة في سورة آل عمران. فهذه كتلك ليس لدينا عن وقت نزولها رواية قطعية الثبوت. وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتاب : «زاد المعاد» أن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة ؛ ارتكانا منه إلى أن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حج حجة الوداع في السنة العاشرة ؛ وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إما في السنة التاسعة أو العاشرة .. ولكن هذا لا يصلح سندا. فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يؤخر حجه إلى السنة العاشرة. وبخاصة إذا لاحظنا أنه أرسل أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أميرا على الحج في السنة التاسعة. وقد ورد أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لما رجع من غزوة تبوك هم بالحج ؛ ثم تذكر أن المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم ، وأن بعضهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم .. ثم نزلت براءة ، فأرسل ـ صلىاللهعليهوسلم ـ علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ يبلغ مطلع براءة للناس ، وينهي بها عهود المشركين ، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى : «أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عهد عند رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهو إلى مدته» .. ومن ثم لم يحج ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا ..
وهناك ما يستأنس به على أن فريضة الحج وشعائره قد أقرها الإسلام قبل هذا. وقد ورد أن الفريضة كتبت في مكة قبل الهجرة. ولكن هذا القول قد لا يجد سندا قويا. إلا أن آيات سورة الحج المكية ـ على الأرجح ـ ذكرت معظم شعائر الحج ، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها. وقد ورد فيها : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) .. (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ، لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) .. (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها ، وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ..
وقد ذكر في هذه الآيات أو أشير إلى الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله. وهي شعائر الحج الأساسية. وكان الخطاب موجها إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم. مما يشير إلى فرضية الحج في وقت مبكر ، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون. فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين ـ وهم سدنة الكعبة إذ ذاك ـ جعلت أداء الفريضة متعذرا بعض الوقت ، فذلك اعتبار آخر. وقد رجحنا في أوائل هذا الجزء أن بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفرادا في وقت مبكر ؛ بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة.
وعلى أية حال فحسبنا هذا عن تاريخ فرض الحج ، لنواجه الآيات الواردة هنا عن شعائره ، وعن