وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها ، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها ، بل يجب أن تذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) (١٩)
كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات الله : بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات الله سبحانه في نظام الوجود ، وذكر نعمه ومواهبه ، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك ، أي محاربة الشرك وعبادة غير الله تعالى ، فتطرّقت أوّلاً إلى أحد فروعها ، أي عبادة الملائكة فقالت : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا).
إنّ التعبير ب «الجزء» يبيّن من جانب أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد الله تعالى ، لأنّ الولد جزء من وجود الأب والأمّ ، وينفصل عنهما كنطفة تتكوّن وتتلقّح ، وإذا ما تلقّحت تَكَوّن الولد من تلك اللحظة. ويبيّن من جانب آخر قبولهم عبادتها ، لأنّهم كانوا يظنّون الملائكة جزءاً من الآلهة في مقابل الله سبحانه.
ثم تضيف : (إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ). فمع كل هذه النعم الإلهية التي أحاطت بوجوده ، والتي مرّ ذكر خمس منها في الآيات السابقة ، فإنّه بدل أن يطأطيء رأسه إعظاماً لخالقه ، وإجلالاً لولي نعمته ، سلك سبيل الكفر واتّجه إلى مخلوقات الله ليعبدها.
في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكرية لدى هؤلاء من أجل إدانة هذا التفكير الخرافي ، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة ، وكانوا يعدّون البنت عاراً ـ عادةً ـ يقول تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفكُم بِالْبَنِينَ).
فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم ، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على الله ، فتجعلون نصيبه بنتاً ، ونصيبكم ولداً؟
وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر ، فتقول : (وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ