وتنخدع إذاً لتحرّكهم في البلاد وتنقّلهم في المدن المختلفة ، واستعراضهم لقوّتهم : (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلدِ).
«يجادل» : مشتقة من «جدل» وهي في الأصل تعني لفّ الحبل وإحكامه ، ثم عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه ، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الاشخاص المتقابلين ويريد كل شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.
«تقلب» : مشتقة من «قلب» وتعني التغيير ، و «تقلّب» هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها ، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضاً.
إنّ هدف الآية تحذير للرسول صلىاللهعليهوآله والمؤمنين به ـ في بداية البعثة ـ من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة ، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية أو القوة السياسية والاجتماعية للكفار ، ويعتبرونها دليلاً على حقانيتهم أو سبباً لقوتهم الحقيقية ، إذ هناك الكثير منهم في تاريخ هذه الدنيا ، وقد انكشف ضعفهم وسقطت عنهم سرابيل القوة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي.
لذلك توضّح الآية التي بعدها عاقبة بعض الامم السابقة التي ضلّت الطريق وانكفأت عن جادّة الحق والصواب ، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ).
هؤلاء هم «الأحزاب» الذين تآزروا ووقفوا ضدّ دعوات الأنبياء الإلهيين ، لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.
إنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الوقوف ضدّ الدعوات النبوية الكريمة ، بل خططت كل امّة منهم لأن تمسك بنبيّها فتسجنه وتؤذيه ، بل وحتى تقتله : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ).
ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضاً ، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على الحق ومحوه ، وأصرّوا على إضلال الناس وصدّهم عن شريعة الله : (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (١).
إلّا أنّ هذا الوضع لم يستمر طويلاً ، ولم يبق لهم الخير دوماً ، إذ حينما حان الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
__________________
(١) «ليدحضوا» : مصدرها ثلاثي «إدحاض» وتعني الإزالة والإبطال.