كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً ، ببركة وجود النبي إذ كان رحمة للعالمين ، والآية (٣٣) من سورة الأنفال شاهدة عليه : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ).
ثم يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم ، فذلك بفضله وبرحمته ، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم ، فيقول : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَشْكُرُونَ).
وإذا كانوا يتصورون أنّ تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة ، فهم في غاية الخطأ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) (١). فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون ، والغيب والشهادة عنده سيّان.
ثم يضيف القرآن قائلاً : إنّه ليس علم الله منحصراً بما تكنّ القلوب وما تعلن ، بل علمه واسع مطلق. (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتبٍ مُّبِينٍ).
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١)
كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد ، أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوة ، وحقانية القرآن ، ليكتمل بهما هذا البحث.
أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين ، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم. فتقول الآيات أوّلاً : (إِنَّ هذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
__________________
(١) «تكنّ» : مأخوذ من كَنّ (على وزن جَنّ) ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفار من خواطر وأفكارعدوانية.