(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً (٢٠) قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً) (٢١)
ولادة عيسى عليهالسلام : بعد ذكر قصة يحيى عليهالسلام ، حوّلت الآيات مجرى الحديث إلى قصة عيسى عليهالسلام لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جدّاً بين مجريات هاتين الحادثتين.
فإن كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة ، فإنّ ولادة عيسى من امّ دون أب أعجب.
وإن كان الوصول إلى مقام النبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثاً على الحيرة ومعجزاً ، فإنّ التحدّث في المهد عن الكتاب والنبوة أبعث على التعجب والحيرة ، وأكثر إعجازاً.
وعلى كل حال ، فإنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال ، إحداهما أكبر من الاخرى ، وقد صادف أن تكون كلتا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية ، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب ، حيث إنّ امّ يحيى كانت أخت امّ مريم ، وكانت كلتاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.
تقول الآية الاولى : (وَاذْكُرْ فِى الْكِتبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا).
«انتبذت» : أخذت من مادة «نبذ» وهي تعني إلقاء وإبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإنتباه ، وربّما كان هذا التعبير في الآية إشارة إلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإنتباه ، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.
في هذه الأثناء ومن أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة ، فإنّها (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا). (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). والروح هنا جبرئيل ملك الله العظيم حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.