هنا قال إبراهيم : إذا لم يرشدني ربي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في عداد التائهين (فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ). عند ذاك كان الليل قد انقضى ، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هارباً من كبد السماء ، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء ، وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح : هذا ربّي فإنّه أكبر وأقوى ضوءاً ، ولكنه إذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلاً : يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله : (فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبّى هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّى بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
الآن بعد أن عرفت أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إلهاً قادراً وحاكماً على نظام الكائنات ، فانّي أتجه إلى الذي خلق السماوات والأرض ، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحداً ، فإنّي موحد ولست مشركاً : (إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذى فَطَرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
إنّ تفسير هذه الآية والآيات التالية بشأن ما دفع بإبراهيم الموحد العابد لله الواحد ، أن يشير إلى كوكب في السماء ويقول : هذا ربّي؟
فإنّه عندما يقول : (هذَا رَبّى) لا يقولها قاطعاً جازماً ، بل يقولها من باب الفرض والاحتمال حتى يفكّر في الأمر. أو أنّه قال (هذَا رَبّى) تعني : هذا ما تعتقدون أنّه ربي.
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣)