الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث ـ واستكمالاً للبحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المنافقين ـ تكشف عن ظاهرة الإزدواجية النفاقية عند هؤلاء ، وتنبّه المسلمين إلى أنّ المنافقين حين يأتونهم يتظاهرون بالإيمان وقلبهم يغمره الكفر ، ويخرجون من عندهم المسلمين ولا يزال الكفر يملأ قلوبهم ، حيث لا يترك منطق المسلمين واستدلالهم وكلامهم في نفوس هؤلاء المنافقين أيّ أثر يذكر ، تقول الآية الكريمة : (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ).
ثم تبيّن الآية الاخرى علائم من نوع آخر للمنافقين ، فتشير إلى أنّ كثيراً من هؤلاء في انتهاجهم طريق العصيان والظلم وأكل المال الحرام ، يتسابقون بعضهم مع بعضهم الآخر تقول الآية : (وَتَرَى كَثِيرًا مّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ). أي إنّ هؤلاء يسرعون الخطى في طريق المعاصي والظلم ، وكأنّهم يسعون إلى أهداف تصنع لهم الفخر والمجد ، ويتسابقون فيما بينهم في هذا الطريق دون خجل أو حياء.
في الختام لكي يؤكد القرآن قبح هذه الأعمال ، قالت الآية : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
بعد ذلك تحمل الآية الثالثة على علمائهم الذين أيّدوا قومهم على إرتكاب المعاصي بسكوتهم ، فتقول : (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ).
وفي الختام ، يمارس القرآن الكريم نفس أسلوب الذم الذي إتّبعه مع أهل المعاصي الحقيقيين ، فيذمّ العلماء الساكتين الصامتين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقبّح صمتهم هذا ، كما تقول الآية : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
وهكذا تبيّن أنّ مصير الذين يتخلّون عن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العظيمة ـ وخاصة إن كانوا من العلماء ـ يكون كمصير أصحاب المعاصي ، وهؤلاء شركاء في الذنب مع العاصين.
في تفسير المنار روي عن ابن عباس أنّه قال : ما في القرآن أشدّ توبيخاً من هذه الآية أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والارشاد وتركوا النهي عن البغي والفساد.
وبديهي أنّ هذا الحكم لا ينحصر في علماء اليهود والنصاري ، بل يشمل كل العلماء مهما كانت دياناتهم إن هم سكتوا وصمتوا أمام تلوّث مجتمعاتهم بالذنوب وتسابق الناس في الظلم والفساد ، ذلك لأنّ حكم الله واحد بالنسبة لجميع البشر.