مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨).
قال الكلبيّ (١) : إنّ المشركين لمّا خرجوا من مكّة إلى بدر أتاهم الخبر ، وهم بالجحفة (٢) قبل أن يصلوا إلى بدر ، أنّ عيرهم قد نجت ؛ فأراد القوم الرجوع. فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم (٣) ، فقال : يا قوم ، لا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ، فإنّكم كثير ، وعدوّكم قليل ، فتأمن عيركم. وإنّي جار لكم على بني كنانة ألّا تمرّوا على حيّ من بني كنانة إلّا أمدّوكم بالخيل والرجال والسلاح. فمضوا كما أمرهم للذي أراد الله من هلاكهم.
فالتقوا هم والمسلمون ببدر ؛ فنزلت الملائكة مع المسلمين [في صفّ] (٤) ، وإبليس في صف المشركين في صورة سراقة بن مالك. فلمّا نظر إبليس إلى الملائكة مع المسلمين نكص على عقبيه. وأخذ الحارث بن هشام المخزوميّ بيده فقال : يا سراقة ، على هذه الحال تخذلنا؟ فقال : إنّي أرى ما لا ترون ، أي الملائكة ، إنّي أخاف الله والله شديد العقاب. فقال له الحارث : ألا كان هذا القول أمس. فلمّا رأى إبليس أنّ المؤمنين أقبلوا إليهم ، دفع في صدر الحارث فخرّ ، وانطلق إبليس وانهزم المشركون. فلمّا قدموا مكّة قالوا : إنّما انهزم بالناس سراقة بن مالك ونقض الصفّ ، ثمّ انهزم الناس. فبلغ ذلك سراقة ، فقدم عليهم مكّة فقال : بلغني أنّكم تزعمون أنّي انهزمت بالناس ؛ فو الذي يحلف به سراقة ما شعرت بمسيركم حتّى بلغتني هزيمتكم. فجعلوا يذكّرونه : أما أتيتنا يوم كذا وكذا ، وقلت لنا كذا وكذا؟ فجعل يحلف لهم. فلمّا أسلموا علموا أنّه الشيطان.
__________________
(١) في بعض المخطوطات اضطراب وحذف أثبتّ التصحيح والزيادة من ز ، ورقة ١٢٠.
(٢) الجحفة : قرية على طريق المدينة على ثلاث مراحل وقيل : أربع مراحل من مكّة ، وسمّيت كذلك لأنّ السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام. وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمرّوا على المدينة. انظر : ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، ج ٢ ص ١١١.
(٣) هو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، يكنّى أبا سفيان. انظر ترجمته في الاستيعاب لابن عبد البر ، ج ٢ ص ٥٨١.
(٤) زيادة من ز ، ورقة ١٢٠.