ولبيان ذلك نقول :
استبطان الفيروزآبادى (١) لكتاب (البرهان) :
تقدمت وفاة (الكرمانى) على وفاة (الفيروزآبادى) بثلاثة قرون ، إلا أن هناك أسباب قوية جعلت الفيروزآبادى على علم تام بآثار الكرمانى العلمية منها :
أن الفيروزآبادي ولد فى بلدة (كارزين) (٢) جنوب شيراز فى فارس وهى الولاية الملاصقة لولاية كرمان من جهة الغرب وكان والد الفيروزآبادى من علماء اللغة والأدب فى شيراز. كما تلقى ابنه العلم فى هذه العاصمة ومكث بها حتى (سنة ٧٤٥ ه) ، ثم انتقل إلى واسط حيث تلقى بها القراءات العشر ورحل منها إلى بغداد. وفى شيراز استطاع الفيروزآبادى أن يطلع على مؤلفات الكرمانى ، ومؤلفات أخلص تلامذته الإمام نصر بن على الشيرازى (توفى بعد سنة ٥٨٧ ه). ونجزم بأن الفيروزآبادى قد اطلع فى شيراز على عدة نسخ من كتاب (البرهان) الذى كان متداولا لدى العلماء وموجودا فى مكتبات شيراز ، وإذا أضفنا إلى ذلك : أن الفيروزآبادى كان من صغره مغرما بالورّاقين وهم أشبه بدور النشر الآن ، كما كان مغرما بنسخ الكتب مما يدل على شدة تعلقه بالعلم لما فى نسخ الكتب من مشقات لا يطيقها إلا النساخ ، كما كان قوىّ الحفظ ويذكر عن نفسه أنه كان لا ينام حتى يحفظ مائتى سطر.
فإما أنه عثر على نسخة من نسخ كتاب (البرهان) عند أحد الوراقين فحصل عليها ، وإما أنه كلف أحد الورّاقين بنسخها له ، وإما أنه قد ساعفه الحظ فعثر فى مكتبات شيراز على نسخة بخط الكرمانى نفسه ونقلها ، ومن شدة تعلقه بهذا الكتاب ، وثبت إليه فكرة استبطانه عند ما قام بتصنيف كتابه المشهور (بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز) (٣) وفى الجزء الأول (٤) من هذا الكتاب تكلم الفيروزآبادى على مباحث تتعلق بسور القرآن الكريم وعقد لكل سورة بصيرة تضم تسعة مباحث : خصص المبحث الثامن منها (للمتشابه)
__________________
(١) هو الإمام اللغوى المؤلف المشهور مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (٧٢٩ ـ ٨١٧ ه) مؤلف القاموس المحيط فى اللغة. ومصنفاته فى التفسير والحديث والفقه واللغة والتاريخ بلغت خمسين مصنفا ، منها شرحه لصحيح البخارى المسمى (فتح البارى بالسج الفسيح الجارى فى شرح صحيح البخارى) وكان يقدر تمامه فى أربعين مجلدة كمل منها عشرون.
(٢) كارزين ـ بفتح الراء وكسرها وبكسر الزاى كما صرح الفيروزآبادى فى مادة (كرز) فى القاموس المحيط.
وهناك بلدة أخرى من كور سابور يطلق عليها «كازرون». وقد التبس الأمر على كثير من المتخصصين فنسبوا الفيروزآبادى إلى الأخيرة.
(٣) نشره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فى ست مجلدات اعتبارا من سنة ١٣٨٣ ه حتى سنة ١٣٩٣ ه.
(٤) الجزء الأول بتحقيق العلامة الأستاذ محمد على النجار سنة ١٣٨٣ (١٩٦٣ م) ويعتبر فى نظرنا أول نص مستبطن مطبوع لكتاب «البرهان» صدر منجما على مبحث المتشابه الذى عقده الفيروزآبادى لكل سورة.