وما فى المائدة من كلام الله سبحانه فأضاف جميع ذلك إلى صنعه إظهارا لعجز البشر ، فإن فعل العبد مخلوق لله تعالى (١). وقيل (بِإِذْنِ اللهِ) يعود إلى الأفعال الثلاثة (٢) ، وكذلك الثانى يعود إلى الثلاثة (٣) الأخرى (٤).
__________________
(١) ز. فى «ت» و «ز ـ ١».
(٢) فى آية آل عمران : يعنى [أخلق بإذن الله] و [أنفخ بإذن الله] [فيكون طيرا بإذن الله].
(٣) في نفس الآية [وهى الآية ٤٩ سورة آل عمران] أى أبرئ بإذن الله ، وأحيى بإذن الله ، وأنبئكم بإذن الله. ولبسط أسرار التكرار فى آيتى آل عمران والمائدة نقول :
(أ) جاءت آية سورة آل عمران فى صيغة المتكلم لأنها إخبار من عيسى عليهالسلام لبنى إسرائيل بالآيات التى جاءهم بها من الله تعالى ، وتقدم ذكر هذه الآيات قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فكل ما أفعله من خلق وإبراء وإحياء وإنباء لكم بما تأكلون وتدخرون إنما هو آيات لكم من عند ربكم شاهدة بأنى رسول الله ، مصدقة لى فيما أدعوكم إليه من أمره عزوجل لكم ونهيه إن كنتم مؤمنين مصدقين لما جئت به وما جاء به موسى عليهالسلام. أما آية المائدة : فإنها جاءت فى صيغة الخطاب من الله عزوجل لعيسى عليهالسلام ، فيه بيان نعمة الله تعالى عليه وعلى أمه عليهماالسلام.
(ب) ما جاء فى آية آل عمران بصيغة المتكلم جاء فى آية المائدة بصيغة الخطاب ليعلموا أن كل آية جاء بها عيسى عليهالسلام هى نعمة أنعم الله تعالى بها عليه. ففي آية سورة آل عمران (أَخْلُقُ فَأَنْفُخُ وَأُبْرِئُ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) وفى آية المائدة : جاءت الأفعال وما يناسب الأخير منها بصيغة الخطاب (وَإِذْ تَخْلُقُ فَتَنْفُخُ وَتُبْرِئُ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) ؛ لبيان أن ذلك ليس لخصوصيته عليهالسلام على وجه الاستقلال ، وإنما هى آيات أوتيها ، ولو شاء الله تعالى أن يكون الإحياء بنفخ أى شخص كان ، لحصل ذلك دون تخلف ولا استعصاء.
فطابقت مقالة عيسى عليهالسلام فى آية آل عمران إخبار الله تعالى عنه فى سورة المائدة.
(ج) فى آية المائدة إشارة إلى أن الذى مر بمرحلة المهد إلى مرحلة الكهولة ، واحتاج فى وجوده إلى أم تلده ، ومن افتقر إلى خالقه فى تأييده بروح القدس وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وفى مده بالآيات الدالة على صدقه : لا يصح أن يلتبس أمره على بعض أهل الكتاب فيغالى فى الاعتقاد فيه ويسند إليه ما لا يصح إسناده إلا لله تعالى. أما آية آل عمران فقد تقدمها ذكر ذلك فى الآيات ٤٥ ـ ٤٨ التى تسبقها مباشرة فأغنى هذا عن إعادة التّنبيه إليه.
(د) جاء الخلق فى الآيتين بمعنى التقدير من مادة مخلوقة فعلا ، ولذا قال فيها : (مِنَ الطِّينِ) وفى تعريف الطين تنبيه إلى أنه طين مخصوص صالح لقبول الآية. وفى هذا التخصيص زيادة بيان بأن الاستقلال بالخلق ليس فى طاقة البشر ، ونفى للقدرة على إيجاد مخلوقات الله تعالى ، وتنبيه إلى إذنه عزوجل لعيسى عليهالسلام أن يصنع كهيئة الطير ولو أراد القدرة على إيجاد المخلوقات لقال : (أخلق طيرا).
ولما انعدمت القدرة قال : كهيئة الطير.
(ه) جاء النفى القاطع لاستقلال قدرة المخلوق على الإيجاد بقوله فى آل عمران : (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) وفى المائدة كرر (بِإِذْنِي) مرتين : مرة عند التهيئة ، ومرة عند النفخ إعلاما لهم بأنه عليهالسلام لم يتجاوز ما أمره الله تعالى به.
(و) قول عيسى عليهالسلام مخاطبا قومه : (أَخْلُقُ لَكُمْ) فى آية آل عمران يعنى أن هذا الخلق هو إظهار لآية لكم لعلكم تعتدون ، ولما كانت آية المائدة خطابا منه تعالى لعيسى عليهالسلام حذف [لكم] وكرر [بإذنى] مرتين عند الخلق وعند النفخ.
(٤) كذا فى البصائر ، وفى الأصلية : [الأخر].