سنة. فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان ، وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف فى مرة ، وسعد بن رخيلة (١) فى أشجع ، وعامر بن الطفيل فى هوازن.
فلما سمع النبي صلىاللهعليهوسلم بهم ، ضرب الخندق على المدينة ، برأى سلمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو يومئذ حر. وقال : يا رسول الله : إنا كنّا بفارس ؛ إذا حوصرنا : خندقنا علينا ، فحفر الخندق ، وباشر الحفر معهم بيده صلىاللهعليهوسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجرف والغابة ، فى عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت غطفان وأهل نجد بذنب نقمى ، إلى جانب أحد. فخرج النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، فى ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا فى الآطام (٢).
واشتد الخوف ، فأقام النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأقام المشركون ، بضعا وعشرين ليلة ، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي صلىاللهعليهوسلم إلى عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف ، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن يرجعا بمن معهما ، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد ، فاستشار النبي صلىاللهعليهوسلم سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فقال سعد بن معاذ : أشيء أمرك الله به ، لا بدّ لنا من العمل به ، أم شىء تحبه فنصنعه ، أم شىء تصنعه لنا؟ قال : «لا ، بل شىء أصنعه لكم ، أردت أن أكسر عنكم شوكتهم». فقال سعد : يا رسول الله ؛ لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة ، إلا قرى ، أو شراء ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزّنا بك ، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال ـ عليه الصلاة والسلام : «فأنت وذاك» ، فمحا سعد ما فى الكتاب ، وقال : ليجهدوا علينا (٣).
ثم إن الله تعالى بعث عليهم ريحا باردة ، فى ليلة شاتية ، فأحصرتهم ، وأحثت التراب فى وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأكفأت القدور ، وأطفأت النيران ، وجالت الخيل بعضها فى بعض. وأرسل الله تعالى عليهم الرعب ، وكثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم ، حتى كان سيد كل خباء يقول : يا بنى فلان ، هلمّوا ، فإذا اجتمعوا إليه قال : النّجا ، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) ، أي : بصيرا بعملكم ، من حفر الخندق ، ومعاونة النبي صلىاللهعليهوسلم ، والثبات معه ، فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو : بالغيب ، أي : بما يعمل الكفار ؛ من البغي ، والسعى فى إطفاء نور الله ، (إِذْ
__________________
(١) فى تفسير البغوى [مسعود بن رخيلة].
(٢) الآطام : الحصون. جمع أطم. انظر اللسان (أطم ١ / ٩٣).
(٣) انظر : السيرة لابن هشام (٣ / ٢٢٥).