ألهمهم الله فى الآخرة أن يقولوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وهداهم فيها إلى طريق الجنة. وقيل : إلى طريق الوصول إلى الله العزيز الحميد ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد اختصم أهل الظاهر مع أهل الباطن فى شأن الربوبية ، فقال أهل الظاهر : الحق تعالى لا يرى فى دار الدنيا ، ولا تمكن معرفته ، إلا من جهة الدليل والبرهان ، على طريق الإيمان بالغيب. وقال أهل الباطن من أكابر الصوفية : الحق تعالى يرى فى هذه الدار ، كما يرى فى تلك الدار ، من طريق العرفان ، على نعت الشهود والعيان ، لكن ذلك بعد موت النفوس وحط الرؤوس لأهل التربية النبوية ، فلا يزال يحاذيه ويسير به ، حتى يقول : ها أنت وربك ، فحينئذ تشرق عليه شموس العرفان ، فتغطى عنه وجود حس الأكوان ، فلا يرى حينئذ إلا المكون ، حتى لو كلف أن يرى غيره لم يستطع ؛ إذ لا غير معه حتى يشهده.
وقال بعضهم : (محال أن تشهده ، وتشهد معه سواه). وفى مناجاة الحكم العطائية : «إلهى ، كيف يستدلّ عليك بما هو فى وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هى التي توصل إليك؟!». وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه : (أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان). وهذه الطريق هى طريق التربية ، لا تنقطع أبدا ، فمن كفر بها وجحدها قطعت له ثياب من نار القطيعة ، فيبقى مسجونا بسرادقات محيطاته ، محصورا فى هيكل ذاته ، لا يرى إلا ظلمة الأكوان ، يصب من فوق رأسه ، إلى قلبه ، حرّ التدبير والاختيار ، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حيرة الدّهش ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال ؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات ، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات. ويقال له : ذق عذاب الحريق ، وهو حرمانك من شهود التحقيق.
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص ، جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم ، يحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل ، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل ، وهدوا إلى الطيب من القول ، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم ، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية ، وهدوا إلى طريق التربية والترقية ، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب ، الحامد المحمود ، القريب المجيب. حققنا الله بمقامهم بمنّه وكرمه.
ثم شرع فى المقصود من السورة ، وهو أحكام الحج ، وبدأ بتعظيم البيت ؛ تشويقا وترغيبا فى حجه ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)