(فَنادى فِي الظُّلُماتِ) أي : فى الظلمة الشديدة المتكاثفة كقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ ...) (١) ، أو فى ظلمة بطن الحوت والبحر والليل : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) أي : بأنه لا إله إلا أنت ، أو تفسيرية ، أي : قال لا إله إلا أنت ، (سُبْحانَكَ) أي : أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شىء ، أو : تنزيها لك عما ظننت فيك ، (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسى ؛ بخروجي عن قومى قبل أن تأذن لى ، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة ، وعن الحسن : ما نجاه ، والله ، إلا إقراره على نفسه بالظلم.
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : أجبنا دعاءه الذي دعا فى ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه. عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من مكروب يدعو بهذا الدّعاء إلّا استجيب له» (٢). (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) : الذلة والوحشة والوحدة ، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات ، وقيل : بعد ثلاثة أيام ، (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي : مثل ذلك الإنجاء الكامل ننجى المؤمنين من غمومهم ، إذا دعوا الله ، مخلصين فى دعائهم. وعنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى : دعوة يونس بن متى ، قيل : يا رسول الله ، أليونس خاصة؟ قال : بل هى عامة لكل مؤمن ، ألم تسمع قول الله تعالى : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)». وهنا قراءات فى (نُنْجِي) ، مذكورة فى كتب القراءات ، تركتها لطول الكلام فيها.
الإشارة : من تحققت له سابقة العناية لا تبعده الجناية ، ولا تخرجه عن دائرة الولاية ، بل يؤدب فى الدنيا بالابتلاء فى بدنه أو ماله ، على قدر الجناية وعلو المقام ، ثم يرد إلى مقامه. وهاهنا حكايات للصوفية ـ رضى الله عنهم ـ من هذا النوع ، منها : حكاية خير النساج رضى الله عنه ، قيل له : أكان النسج صنعتك؟ قال : لا ، ولكن كنت عاهدت الله واعتقدت ألا آكل الرطب ، فغلبتنى نفسى واشتريت رطلا منه ، فجلست لآكله ، فإذا رجل وقف علىّ ، وخنقنى ، وقال : يا عبد السوء ، أتهرب من مولاك ـ وكان له عبد اسمه : «خير» أبق منه ، ألقى الله شبهه علىّ ـ فحملنى إلى حانوته ، وقال : اعمل عملك ، أمرنى بعمل الكرباس ـ وهو القطن ـ فدليت رجلى لأنسجه ، فكأنى كنت أعمله سنين ، فبقيت معه أشهرا ، فقمت ليلة إلى صلاة الغداة ، وقلت : إلهى لا أعود ، فأصبحت ، فإذا الشبه قد زال عنى ، وعدت إلى صورتى التي كنت عليها ، فأطلقت ، فثبت علىّ هذا الاسم ، فكان سببه اتباع شهوتى.
ومنها قضية أبى الخير العسقلاني رضى الله عنه قال : اشتهيت السمك سنين ، ثم ظهر له من وجه حلال ، فلما مد يده ليأكل ، أخذت شوكة من عظامه إصبعه ، فذهبت فى ذلك ، فقال : إلهى هذا لمن مد يده لشهوة من حلال ، فكيف
__________________
(١) من الآية ١٧ من سورة البقرة.
(٢) أخرجه الترمذي فى (الداعوة باب ٨٢) ، وأبو يعلى (٢ / ٦٥) ، والحاكم فى المستدرك (١ / ٥٠٥) ، وصححه ووافقه الذهبي ، من حديث سعد بن أبى وقاص. وأخرجه أحمد فى قصة (١ / ١٧٠).