يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (ذَا النُّونِ) أي : صاحب الحوت ، وهو يونس عليهالسلام ، (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي : مراغما لقومه ، فارا عنهم ، وغضب من طول دعوته إياهم ، وشدة شكيمتهم ، وتمادى إصرارهم ، فخرج مهاجرا عنهم ، قبل أن يؤمر ، وقيل : وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم ؛ لأجل توبتهم ، ولم يشعر بها ، فظن أنه كذبهم ، فغضب من ذلك ، فهو من باب المغالبة ؛ للمبالغة ؛ أو لأنه غضب لما رأى منهم من الإصرار ، وغضبوا لمفارقته إياهم ، وكان من حقه عليهالسلام أن يصبر وينتظر الإذن الخاص من الله تعالى ، فلما استعجل ابتلى ببطن الحوت ، وقال ابن عباس : قال جبريل ليونس عليهالسلام : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم ، قال : ألتمس دابة ، قال : الأمر أعجل من ذلك ، فانطلق إلى السفينة فركبها ، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم ، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه ، فنودى الحوت : إنا لم نجعل يونس لك رزقا ، إنما جعلناه لك حرزا ، فالتقمه ، ومرّ به على الأبلة ، ثم على دجلة ، ثم مرّ به حتى ألقاه بنينوى. ه.
وقال وهب بن منبه رضى الله عنه : إنّ يونس كان عبدا صالحا ضيّق الخلق ، (٢) فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسّخ الرّبع (١) تحت الحمل الثقيل ، فقذفها وخرج هاربا عنها ، ولذلك أخرجه الله من أولى العزم ، قال لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (٣) وقال : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٤) أي : لا تلق أمرى كما ألقاه. ه. وأما قول الحسن : مغاضبا لربه ، فلا يليق بمقام الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ إلا أن يحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نضيق عليه ، أو لن نقدر عليه بالعقوبة ، فهو من القدر ، ويؤيده قراءة من شدّد ، وعن ابن عباس رضى الله عنه قال : دخلت يوما على معاوية ، فقال : لقد ضربتنى أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلا أرى لنفسى خلاصا إلا بك ، قال : وما هى؟ فقرأ الآية ... فقال : أو يظن نبى الله ألا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر لا من القدرة. ه.
وقيل : إنه على حذف الاستفهام. أي : أيظن أن لن نقدر عليه ، وقيل : هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن يقدر عليه ، أي : تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه ؛ حيث استعجل الفرار. قلت : لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب ، فحين خرج من غير إذن خاص ؛ عدّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة ، وتمسك عليهالسلام بالإذن العام ، وهو الهجرة من دار الكفر ، وهو لا يكفى فى حق أمثاله ، فعوقب بالسجن فى بطن الحوت.
__________________
(١) الربع : ولد الناقة أول ما يحمل عليه.
(٢) هذا لا يصح أن يوصف به سيدنا يونس ، الذي قال فيه سيدنا محمد : «لا ينبغى لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى».
(٣) من الآية ٣٥ من سورة الأحقاف.
(٤) من الآية ٤٨ من سورة القلم. وانظر تفسير الطبري (١٧ / ٧٧) ، والبغوي (٥ / ٣٥٠).