وأما حكم إفساد المواشي للزرع فى شرعنا : فقال مالك والشافعي : يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار ؛ للحديث الوارد فى ذلك (١) ، على تفصيل فى مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار. وقال أبو حنيفة : لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : ـ «العجماء جرحها جبار» (٢) ، ما لم يكن معها سائق أو قائد ، فيضمن عنده.
قال تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي : كل واحد منهما آتيناه حكما ، أي : نبوة ، وعلما : معرفة بمواجب الحكم ، لا سليمان وحده. وفيه دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فى علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد.
ثم بيّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات ، فقال : (وَسَخَّرْنا) أي : ذللنا (مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) ، حال كونها (يُسَبِّحْنَ) أي : مسبحات ؛ ينزهن الله تعالى بلسان المقال ، كما سبّح الحصا فى كف نبينا عليه الصلاة والسلام. (وَ) سخرنا له (الطَّيْرَ) ؛ كانت تسبح معه. وقدّم الجبال على الطير ؛ لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل فى الإعجاز ؛ لأنها جماد. قال الكواشي : كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبال والطير ، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر ، وكان إذا فتر من التسبيح ، يسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير ؛ لينشط فى التسبيح ويشتاق إليه. وروى أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة ، قال قتادة : «يسبحن» ، أي : يصلين معه إذا صلى ، وهذا غير ممتنع فى قدرة الله تعالى. وفى الأثر : «كان داود يمرّ ، وصفاح الروحاء تجاوبه ، والطير تساعده». (وَكُنَّا فاعِلِينَ) بالأنبياء أمثال هذا وأكثر ، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا.
(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) أي : صنعة الدروع. واللبوس لغة فى اللباس ، والمراد : الدرع ، (لَكُمْ) أي : نافع لكم ، (لِتُحْصِنَكُمْ) (٣) أي : اللبوس ، أو داود. وقرئ بالتأنيث ، أي : الصنعة ، أو اللبوس بتأويل الدرع. وقرئ بنون العظمة ، أي : الله تعالى ، وهو بدل اشتمال من «لكم». وقوله : (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي : من حرب عدوكم ، أو من وقع السلاح فيكم ، (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) الله على ذلك؟ وهو استفهام بمعنى الأمر ؛ للمبالغة والتقريع.
ثم ذكر ما اختص به سليمان عليهالسلام فقال : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي : وسخرنا له الريح. وإيراد اللام هنا ، دون الأولى ؛ للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت ، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليهالسلام كان بطريق الانقياد الكلى والامتثال لأمره ونهيه ، بخلاف تسخير الجبال ، لم يكن بهذه المثابة ، بل بطريق التبعية والاقتداء. حال كون الريح
__________________
(١) عن البراء بن عازب : «كانت له ناقة ضارية ، فدخلت حائطا ، فأفسدت فيه ، فكلّم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقضى بأن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها ، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها ، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل» أخرجه أبو داود فى (البيوع ، باب المواشي تفسد زرع القوم) وابن ماجه فى (الأحكام ، باب الحكم فيما أفسدت المواشي).
(٢) أخرجه البخاري فى (الزكاة : باب فى الركاز الخمس) ، ومسلم فى (الحدود ، باب جرح العجماء) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(٣) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص «لتحصنكم» بالتاء ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون ، وقرأ الآخرون (ليحصنكم) بالياء. انظر الإتحاف (٢ / ٢٦٦).