يقول الحق جل جلاله لبنى إسرائيل ، بعد ما أنجاهم من الغرق ، وأفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) ؛ فرعون وقومه ، حيث كانوا (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) (١) ، (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي : واعدناكم بواسطة نبيكم ، إتيان جانب الطور ، الجانب الأيمن منه للمناجاة وإنزال التوراة. وهل هو الطور الذي أبصر فيه النار ووقعت فيه الرسالة ، أو غيره؟ خلاف. ونسبة المواعدة إليهم مع كونه لموسى عليهالسلام خاصة ، أو له وللسبعين المختارين ، نظر إلى ملابستها إياهم ، وسراية منفعتها إليهم ، وإعطاء لمقام الامتنان حقه. كما فى قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (٢) ؛ حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين ، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليهالسلام.
ثم قال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ) حين تهتم ، (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) أي : الترنجبين والطير السّمانى ، حيث كان ينزل عليهم المنّ وهم فى التيه ، مثل الثلج ، من الفجر إلى الطلوع ، لكل إنسان صالح ، ويبعث الجنوب عليهم السّمانى ، فيذبح الرجل منه ما يكفيه. وقلنا لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : من لذائذه ، أو حلاله. وفى البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى. (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي : فيما رزقناكم بالإخلال بشكره ، والتعدي لما حدّ لكم فيه ، كالترفه والبطر والمنع من المستحق. وقال القشيري : مجاوزة الحلال إلى الحرام ، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بدّ منه ، فأزاد على سدّ الرمق ، أو بالأكل على الغفلة والنسيان. ه. وقيل : لا تدخروا ، فادّخروا فتعودوا ، وقيل : لا تنفقوه فى المعصية ، (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) بفعل شىء من ذلك ، أي : ينزل ويجب ، من حلّ الدين ؛ إذا وجب. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي : تردّى وهلك ، أو وقع فى المهاوى.
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) أي : كثير الغفران (لِمَنْ تابَ) عن الشرك والمعاصي ، التي من جملتها الطغيان فيما ذكر ، (وَآمَنَ) بما يجب الإيمان به ، (وَعَمِلَ صالِحاً) أي : عملا صالحا مستقيما عند الشرع ، وفيه ترغيب وحث لمن وقع فى زلّة أو طغيان على التوبة والإيمان ، (ثُمَّ اهْتَدى) أي : استقام على الهدى ودام عليها حتى مات. وفيه إشارة إلى أن من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران. قال الكواشي : (ثُمَّ اهْتَدى) أي : علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى. ه.
الإشارة : إذا ذهبت عن العبد أيام المحن ، وجاءت له أيام المنن ، فينبغى له أن يتذكر ما سلف له من المحن ، وينظر ما هو فيه الآن من المنن ، ليزداد شكرا وتواضعا ، فتزداد نعمه ، وتتواتر عليه الخيرات. وأما إن نسى أيام
__________________
(١) من الآية ٤٩ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ١١ من سورة الأعراف.