(قالَ) تعالى لهما : (لا تَخافا) ، وهو استئناف بيانى ، كأن قائلا قال : فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل : قال : لا تخافا ما توهمتما من الأمرين ، (إِنَّنِي مَعَكُما) بحفظي ورعايتى ونصرى ومعونتى ، (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل ، فأفعل فى كل حال ما يليق بها ؛ من دفع ضر وشر ، وجلب نفع وخير.
(فَأْتِياهُ) ، أمر بإتيانه ، الذي هو عبارة عن الوصول إليه ، بعد ما أمر بالذهاب إليه ، فلا تكرار ، (فَقُولا) له : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) إليك ، أمر بذلك من أول الأمر ، ليعرف الطاغية شأنهما ، ويبنى جوابه على ذلك ، (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : أطلقهم من الأسر والقهر ، وأخرجهم من تحت يدك العادية. وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام ، بدليل قوله : (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب ، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط ، يستخدمونهم فى الأعمال الصعبة ، من الحفر ونقل الأحجار ، وضرب اللبن والطين ، وبناء المدائن ، وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ويقتلون ذكور أولادهم عاما دون عام ، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده ، وتسريح بنى إسرائيل. روى أنه لمّا رغبه فى الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود فى الجنة والملك الدائم ، أعجبه ، فقال : حتى أستشير هامان ، وكان غائبا ، فقدم ، فأخبره ، فقال هامان : قد كنت أرى لك عقلا ، بينما أنت رب تصير مربوبا ، وبينما أنت تعبد تصير تعبد غيرك ، فغلبه على رأيه.
فقال له موسى : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) ، قال فرعون : وما هى؟ فأدخل يده فى جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، فعجب منها ، ولم يره العصا إلا بعد ذلك ، يوم الزينة. قاله الثعلبي. قلت : والذي يظهر من سورة الشعراء (١) ـ بل هو صريح فيها ـ أنه أراه العصا واليد. وإنما أفردت فى اللفظ ، هنا ؛ لأن المراد اثبات الحجة بصحة الرسالة ، لا تعدد الآية ، وكذلك قوله تعالى : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢) ، (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٣) ، وأما قوله تعالى : (فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٤) ؛ فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات.
ثم قال له : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي : وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضى سلامة الدارين ، على من اتبع الهدى ، بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق ، دون من اتبع الغى والهوى ، وفيه من الترغيب ،
__________________
(١) فى قوله تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ). الشعراء : ٣٠ ـ ٣٣.
(٢) من الآية ٤٩ من سورة آل عمران.
(٣) من الآية ٣٠ من سورة الشعراء.
(٤) من الآية ١٠٦ من سورة الأعراف.