(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) : جمع زبرة ، وهى القطعة الكبيرة ، وهذا لا ينافى رد خراجهم ؛ لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة ، كما ينبئ عنه قراءة : «ائتوني» ؛ بوصل الهمزة ، أي : جيئونى بزبر الحديد ، على حذف الباء ، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة ، دون الخراج على العمل.
قال القشيري : استعان بهم فى الذي احتاج إليه منهم ، ولم يأخذ منهم عمالة ؛ لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المكنة. ه.
ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات ؛ من الفحم والحطب وغيرهما ؛ لأن الحاجة إليها أمس ؛ لأنها الركن فى السد ، ووجودها أعز. قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد ، وجعل بينهما الفحم والحطب ، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، وكان بينهما مائة فرسخ ، وذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) ، وقرئ بضمهما (١) ، أي : مازال يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين ناصيتى الجبلين من البنيان مساويا لهما فى السّمك. قيل : كان ارتفاعه : مائتى ذراع ، وعرضه : خمسون ذراعا. وقرئ (سوّى) ؛ بالتشديد ، من التسوية.
فلما سوّى بين الجبلين بالبناء ، (قالَ) للعملة : (انْفُخُوا) النيران فى الحديد المبنى ، ففعلوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ) أي : المنفوخ فيه (ناراً) أي : كالنار فى الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذى القرنين ، مع أنه من فعل العملة ؛ للتنبيه على أنه العمدة فى ذلك ، وهم بمنزلة الآلة. (قالَ) للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي : آتوني نحاسا مذابا أفرغه عليه ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه ، لما تقدم.
(فَمَا اسْطاعُوا) أي : استطاعوا (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي : يعلوه بالصعود لارتفاعه ، والفاء فصيحة ، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر ، فأفرغوه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، فصار جبلا صلدا ، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) ؛ لارتفاعه وملاسته ، (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) ؛ لصلابته ، وهذه معجزة له ؛ لأن تلك الزبر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها ، فضلا عن إفراغ القطر عليها ، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. والله على كل شىء قدير.
(قالَ) ذو القرنين ، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم : (هذا) أي : السد ، أو تمكينه منه ، (رَحْمَةٌ) عظيمة (مِنْ رَبِّي) على كافة العباد ، لا سيما على مجاوريه ، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق ، بل هو إحسان إلهى محض ، وإن ظهر بمباشرتى. والتعرض لوصف الربوبية ؛ لتربية معنى الرحمة.
__________________
(١) أي : الصاد والدال فى «الصدفين». وهى قراءة ابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب. وقرأ أبو بكر : بضم الصاد وإسكان الدال ، وقرأ الباقون بفتحهما .. انظر الإتحاف (٢ / ٢٢٧).