الإشارة : ذو القرنين لمّا أقبل بكليته على مولاه ، ودعا إلى الله ، ونصح لله ، مكّنه الله تعالى من الأرض ، ويسر له أموره ، حتى قطع مشارقها ومغاربها ، وكذلك من انقطع إلى الله ، ورفع همته إلى مولاه ، وأرشد الخلق إلى الله ، تكون همته قاطعة ، يقول للشىء كن فيكون ، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره ، يكون عند أمره ونهيه «أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، يقول الله تعالى ، فى بعض كلامه : «يا عبدى كن لى كما أريد ، أكن لك كما تريد».
قال القشيري : ذو القرنين مكّن له فى الأرض جهرا ، فكانت تطوى له إذا قطع أحوازها ، وسهل له أن يندرج فى مشارقها ومغاربها ، ويحظر أقطارها ومناكبها ، ومن كان فى محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يمكنه فى المملكة ، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب ، أو غيره من قطع مسافة ، أو استتار عن أبصار ، وتصديق مأمول ، وتحقيق سؤال ، وإجابة دعاء ، وكشف بلاء ، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له فى أمره ، ثم فوق ذلك فى التمكين فى أن يحضر بهمتهم قوما بما شاءوا ، ويمنع قوما عما شاءوا ، فلهم من الحق تحقيق أمل ، إذا تصرفوا فى المملكة بإرادات فى سوانح وحادثات ، وفوق هذا التمكين فى المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالّ ، فالله يحقق فيهم همتهم. ه. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته ، فى كل وقت وحين ، حتى لو طلبوا الحجاب لم يجابوا ، ولو كلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا ، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين فى الإيصال إلى منازل السائرين ومحالّ الواصلين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر سير ذى القرنين إلى جهة المشرق ، فقال :
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١))
قلت : (مَطْلِعَ) فيه لغتان : الكسر والفتح ، و (كَذلِكَ) : خبر عن مضمر ، أي : أمر ذى القرنين كما وصفنا لك ، أو صفة مصدر محذوف لوجد ، أو (نَجْعَلْ) أي : وجدا أو جعلا كذلك ، أو صفة لقوم ، أي : على قوم مثل ذلك القبيل ، الذي تغرب عليهم الشمس فى الكفر والحكم ، أو صفة لستر ، أي : سترا مثل ستركم.
يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَتْبَعَ) ذو القرنين (سَبَباً) : طريقا راجعا من مغرب الشمس ، موصلا إلى مشرقها ، (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض ، قيل : بلغه فى اثنتي عشرة سنة ، وقيل : فى أقل من ذلك.