أو : ولو أن قرآنا بهذه الصفة : من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وتكليم الموتى ، لكان هذا القرآن ؛ لأنه الغاية فى الإعجاز ، والنهاية فى التذكير والإنذار ، والأول أرجح ؛ لمناسبة ما قبله وما بعده.
روى أن قريشا قالوا : يا محمد ، إن سرّك أن نتبعك فسيّر بقرآنك الجبال عن مكة ، حتى تتسع لنا فنتخذها بساتين وقطائع. أو سخر لنا به الريح لنركبها ، فنتّجر بها إلى الشام. أو ابعث لنا قصىّ بن كلاب فإنه كان شيخ صدق ، أو غيره من آبائنا ، فيكلمونا فيك ، ويشهدوا لك بما تقول. فنزلت الآية.
(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) ؛ ليس لى منه شىء ، فهو القادر على الإتيان بما اقترحتموه من الآيات ، إلا أن الإرادة لم تتعلق بذلك ؛ لأنه علم أنه لا ينجع فيكم شىء من ذلك ؛ لفرط عنادكم ، فإذا رأيتموها قلتم : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١). وبيّن ذلك قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) من إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم ، وفرط عنادهم ، علما منهم (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) ، أو : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أي : يعلم (الَّذِينَ آمَنُوا) أن الهداية بيد الله ، ومشيئته ، فلو شاء لهدى الناس جميعا. وكون (يَيْأَسِ) بمعنى «علم» : لغة هوازن ؛ فقد علموا بما أعلمهم أن الله لا يهدى من يضل. وقد قرأ على وابن عباس وجماعة : «أفلم يتبين الذين آمنوا» وهو يقوى تفسير ييأس بيعلم.
قال البيضاوي : وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم ، لأنه مسبّب عن العلم ، فإن الميئوس منه لا يكون إلا معلوما. ولذلك علّقه بقوله : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) ؛ فإن معناه نفى هدى بعض الناس ؛ لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم ، وهو ـ على الأول ـ يتعلق بمحذوف تقديره : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم ؛ علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. أو : بآمنوا ، على حذف الجار ، أي : بأن الله ... إلخ. ه.
(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش والعرب ، (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من الكفر والمعاصي ، (قارِعَةٌ) : داهية تقرعهم ؛ تقلقهم ، وتصيبهم فى أنفسهم وأولادهم وأموالهم. أو غزوات المسلمين إليهم ، إمّا أن تنزل بهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) فيفزعون منها وتتطاير إليهم شررها. وقيل : نزلت فى كفار مكة ، فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كان لا يزال يبعث السرايا ، فتغير حواليهم وتختطف أموالهم. وعلى هذا يجوز أن يكون ضمير (تَحُلُ) خطابا للرسول صلىاللهعليهوسلم أي : تحل بجيشك قريبا من دارهم ، (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) بالموت أو بالبعث أو فتح مكة. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ؛ لا متناع الخلف فى وعده تعالى.
__________________
(١) كما جاء فى الآية ١٥ من سورة الحجر.