منك عبد لى بمجمع البحرين ، وهو الخضر (١) ، وكان قبل موسى عليهالسلام ، وكان فى مقدّمة ذى القرنين ، فبقى إلى زمن موسى عليهالسلام ، وسيأتى ذكر التعريف به فى محله ، إن شاء الله.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن موسى عليهالسلام سأل ربه : أىّ عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرنى ولا ينسانى ، قال : فأى عبادك أقضي؟ قال : الذي يقضى بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : فأى عبادك أعلم؟ قال : الذي يستقى علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى ، أو ترده عن ردى ، قال : يا رب إن كان فى عبادك من هو أعلم منى فدلنى عليه؟ قال : أعلم منك الخضر ، قال : أين أطلبه؟ قال : على ساحل البحر عند الصخرة (٢). قال : يا رب ، كيف لى به؟ قال : خذ حوتا فى مكتل ، فحيثما فقدته فهو هناك ، فأخذ حوتا مشويا ، فجعله فى مكتل ، فقال لفتاه : إذا فقدتّ الحوت فأخبرنى ، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر ، على ما يأتى تمامه ، إن شاء الله تعالى. وحديث الخطبة هو الذي فى صحيح البخاري (٣) وغيره. والله تعالى أعلم أىّ ذلك كان.
الإشارة : قصة سيدنا موسى مع الخضر ـ عليهماالسلام ـ هى السبب فى ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن ، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر ، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن. أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع ، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق. وقيل : هو المراد بمجمع البحرين ، حيث اجتمع سيدنا موسى ، الذي هو بحر الشرائع ، والخضر عليهالسلام ، الذي هو بحر الحقائق ، ولا يفهم أن سيدنا موسى عليهالسلام خال من بحر الحقائق ، بل كان جامعا كاملا ، وإنما أراد الحق تعالى أن ينزله إلى كمال الشرف ، بالتواضع فى طلب زيادة العلم ؛ تأديبا له وتربية ، حيث ادعى القوة فى نسبته العلم إلى نفسه ، وفى الحكم : «منعك أن تدعى ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدعى وصفه وهو رب العالمين!».
وهذه عادة الله تعالى مع خواصّ أحبائه ، إذا أظهروا شيئا من القوة ، أو خرجوا عن حد العبودية ، ولو أنملة ، أدبهم بأصغر منهم علما وحالا ؛ عناية بهم ، وتشريفا لهم ؛ لئلا يقفوا دون ذروة الكمال ، كقضية الشاذلى مع المرأة التي قالت له : تمنّ على ربك بجوع ثمانين يوما ، وأنا لى تسعة أشهر ماذقت شيئا. وكقضية الجنيد والسّري فى جماعة من الصوفية ، حيث تكلموا فى المحبة ، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها ، فقامت امرأة بالباب ، عليها جبة صوف ، فردت على كل واحد ما قال ، حيث أظهروا قوة علمهم ، فأدبهم بامرأة.
ويؤخذ من طلب موسى الخضر ـ عليهماالسلام ـ والسفر إليه : الترغيب فى العلم ، ولا سيما علم الباطن ، فطلبه أمر مؤكد. قال الغزالي رضي الله عنه : هو فرض عين ؛ إذ لا يخلو أحد من عيب أو اصرار على ذنب ، إلا الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ وقد قال الشاذلى رضي الله عنه : من لم يغلغل فى علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر. وبالله التوفيق.
__________________
(١) أخرج حديث موسى والخضر ، البخاري فى مواضع منا : (العلم ، باب ما ذكر فى ذهاب موسى عليهالسلام فى البحر إلى خضر) ، و (أحاديث الأنبياء ، باب حديث الخضر) ، و (التفسير ، سورة الكهف) ، ومسلم فى (الفضائل ، باب من فضائل الخضر).
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير (١٥ / ٢٧٧) وعزاه السيوطي فى الدر (٤ / ٤٢٣) لابن المنذر ، وابن أبى حاتم فى التفسير.
(٣) أخرج البخاري حديث الخطبة فى (تفسير سورة الكهف ، باب «فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما») ، عن أبىّ بن كعب.