صحبتهم ، فلا أحد أظلم ممن ذكّر بالله وبآياته ، فأعرض واستكبر ونسى ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار ، سبب ذلك : جعل الأكنة على القلوب ، وسفح ران المعاصي والذنوب ، فلا يفقهون وعظا ولا تذكيرا ، ولا يستمعون تحذيرا ولا تبشيرا ، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى ، فلن يهتدوا إذا أبدا ؛ لما سبق لهم فى سابق القضاء ، فلو لا مغفرته العامة ، ورحمته التامة ، لعجل لهم العذاب ، لكن له وقت معلوم ، وأجل محتوم ، لا محيد عنه إذا جاء ، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه.
ولمّا ذكر الحق جل جلاله قصة أهل الكهف ، وكان وقع فيها عتاب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث لم يستثن بتأخير الوحى ، وبقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ...) إلخ ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر ـ عليهماالسلام ـ وكان سببها عتاب الحق لموسى عليهالسلام ؛ حيث لم يردّ العلم إليه ، حين قال له القائل : هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال : لا ، فذكر الحق تعالى قصتهما ؛ تسلية لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب ، فقال :
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠))
قلت : (لا أَبْرَحُ) : ناقصة ، وخبرها : محذوف : اعتمادا على قرينة الحال ؛ إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر ، أي : لا أبرح أسير فى سفرى هذا ، ويجوز أن تكون تامة ، من زال يزول ، أي : لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ ... إلخ.
يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليهالسلام ، وكان ابن أخته ، سمى فتاه ؛ إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم. والفتى فى لغة العرب : الشاب ، ولمّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان ، قيل للخادم : فتى ، ويقال للتلميذ : فتى ، وإن كان شيخا ، إذا كان فى خدمة شيخه ، فقال موسى عليهالسلام : (لا أَبْرَحُ) : لا أزال أسير فى طلب هذا الرجل ، يعنى : الخضر عليهالسلام ، (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) ، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلى المشرق ، وهذا مذهب الأكثر. وقال ابن جزى : مجمع البحرين : عند «طنجة» ؛ حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه ، وهو بحر الأندلس. قلت : وهو قول كعب بن محمد القرظي. (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي : زمنا طويلا أتيقن معه فوات الطلب. والحقب : الدهر ، أو ثمانون سنة ، أو سبعون.
وسبب هذا السفر : أن موسى عليهالسلام لما ظهر على مصر ، بعد هلاك القبط ، أمره الله تعالى أن يذّكر قومه هذه النعمة ، فقام فيهم خطيبا بخطبة بليغة ، رقّت بها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقالوا له : من أعلم الناس؟ فقال : أنا. وفى رواية : هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال : لا. فعتب الله عليه ؛ إذ لم يردّ العلم إليه عزوجل ، فأوحى الله إليه : أعلم