تحقق بمعرفة الله ، واطمأن به ؛ لأنه الواسطة العظمى ، بين الله وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات ، كالذكر وغيره. ومنهم من تزيد طمأنينته بزيارة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر ، ونور طمأنينتهم أبهر ، لا سيما العارفين ، وفى الأثر : تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين.
وأما طمأنينة أهل الشهود : فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود ، والترقي فى العلوم والأسرار ، والاتساع فى المقامات إلى ما لا نهاية له ، فى هذه الدار الفانية وفى الدار الباقية ، ففى كل نفس يجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتحف ، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا الله بمقامهم ، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين.
ولا بد فى تحصيل طمأنينة الشهود من صحبة شيخ عارف طبيب ماهر ، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح ؛ فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمس البصيرة ، فإذا اتصل بشيخ عارف كحل عين بصيرته أولا بإثمد علم اليقين ، فيدرك شعاع نور الحق قريبا منه ، ثم يكحل عينه ثانيا بإثمد عين اليقين ، فيدرك عدمه لوجود الحق ، أي : يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين ؛ فيدرك وجود الحق ـ بلا واسطة قدرة وحكمة ، معنى وحسا ، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار فى الحكم بقوله : «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما كان عليه».
وأهل طمأنينة الشهود هم خاصة ورثة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي أشار إليه بقوله :
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))
قلت : (كَذلِكَ) : مفعول مطلق بأرسلناك ، أي : مثل ذلك الإرسال المتقدم أرسلناك. وقال ابن جزى : الكاف تتعلق بالمعنى الذي فى قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ). ه. أي : كما أن الإضلال والهداية بيده كذلك اختصاصك بالرسالة إلى أمة ... إلخ ، وجملة : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ) : حال من ضمير (عَلَيْهِمُ) أي : لتتلو عليهم فى حال كفرهم لعلهم يؤمنون. و (مَتابِ) : مفعل ، من التوبة.
يقول الحق جل جلاله : قد أرسلنا قبلك رسلا فأنذروا وبشروا قومهم ، (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) أي : مثل ذلك الإرسال أرسلناك فى أمة ، أو كما هدينا من أناب إلينا اختصصناك برسالتنا ، (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) ؛ مضت (مِنْ قَبْلِها) أي : تقدمها (أُمَمٌ) أرسل إليهم رسلهم ؛ فليس ببدع إرسالك إلى هذه الأمة الأمية ، (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : لتقرأ عليهم الكتاب ، الذي أوحينا إليك ، والحالة أنهم (يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي : بالبليغ