على كون الخلق جميعا ؛ لأنها من صفاته ، واختياره ، ومشيئته الأولية. أوجد الخلق برحمته ، وخلق آدم وذريته بكرامته ، الخلق كلهم فى حيز الرحمة ، وآدم وذريته فى حيز الكرامة. الرحمة للعموم ، والكرامة للخصوص. خلق الكلّ لآدم وذريته ، وخلق آدم وذريته لنفسه ، ولذلك قال : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (١) ، جعل آدم خليفته ، وجعل ذريته خلفاء أبيهم ، الملائكة والجن فى خدمتهم ، والأمر والنهى والخطاب معهم ، والكتاب أنزل إليهم ، والجنة والنار والسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم ، وجميع الآيات ، خلق لهم. والخلق كلهم طفيل لهم ، ألا ترى الله يقول لحبيبه صلىاللهعليهوسلم : «لولاك ما خلقت الكون»؟ ولهم كرامة الظاهر ، وهى : تسوية خلقهم ، وظرافة صورهم ، وحسن نظرتهم ، وجمال وجوههم ، حيث خلق فيها السمع والأبصار والألسنة ، واستواء القامة ، وحسن المشي ، والبطش ، وإسماع الكلام ، والتكلم باللسان ، والنظر بالبصر ، وجميع ذلك ميراث فطرة آدم ، التي صدرت من حسن اصطناع صورته. الذي قال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) ، فنور وجوههم من معادن نور الصفة ، وأنوار الصفات نوّرت آدم وذريته ، فتكون نورا من حيث الصفات والهيئات ، والحسن والجمال ، متصفون متخلقون بالصفات الأزلية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : «خلق آدم على صورته» ؛ من حيث التخلق لا من حيث التشبيه. انظر تمامه. والحاصل أنه فضلهم بالخلق والخلق ، وذلك يجمع محاسن الصورة الظاهرة والباطنة. ه. قاله المحشى الفاسى.
ثم ذكر محل ظهور كرامة بنى آدم ، وهو يوم القيامة ، فقال :
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))
قلت : يجوز فى (أَعْمى) ـ الثاني ـ : أن يكون وصفا كالأول ، وأن يكون من أفعل التفضيل ، وهو أرجح ؛ لعطف (وَأَضَلُّ) عليه ، الذي هو للتفضيل. وقال سيبويه : لا يجوز أن يقال : هو أعمى من كذا ، وإنما يقال : هو أشد عمى ، لكن إنما يمتنع ذلك فى عمى البصر ، لا فى عمى القلب. قاله ابن جزى.
يقول الحق جل جلاله : واذكر (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ؛ بنبيهم. فيقال : يا أمّة فلان ، يا أمة فلان ، احضروا للحساب. أو : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا صاحب الخير ويا صاحب الشر ، فهو مناسب لقوله : (فَمَنْ أُوتِيَ ...) إلخ.
__________________
(١) من الآية ٤١ من سورة طه.
(٢) من الآية ٧٥ من سورة ص.