ثم أمر نبيه بالدعوة إلى الله ، فقال :
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))
يقول الحق جل جلاله : (ادْعُ) يا محمد الناس (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) ؛ إلى طريقه الموصل إليه ، وهو : الإسلام والإيمان ، والإحسان ؛ لمن قدر عليه ، (بِالْحِكْمَةِ) ؛ بسياسة النبوة ، أو بالمقالة المحكمة ، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة ، (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ؛ مواعظ القرآن ورقائقه ، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة ، (وَجادِلْهُمْ) أي : جادل معاندتهم (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ؛ بالطرق التي هى أحسن طرق المجادلة ؛ من الرفق واللين ، وإيثار الوجه الأيسر ، والمقدمات التي هى أشهر ؛ فإن ذلك أنفع فى تليين لهبهم ، وتبيين شغبهم ، فالأولى : لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق. والثانية : لدعوة عوامهم ، والثالثة : لدعوة معاندهم.
قال ابن جزى : الحكمة هى : الكلام الذي يظهر جوابه ، والموعظة : هى : الترغيب والترهيب. والجدال هو : الرد على الخصم. وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل ، وهذه الآية تقتضى مهادنة نسخت بالسيف. وقيل : إن الدعاء بهذه الطريقة ، من التلطف والرفق ، غير منسوخ ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار ، وأما العصاة فهى فى حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق. ه.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : إنما عليك البلاغ والدعوة. وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك ، بل الله أعلم بالضالين والمهتدين ، وهو المجازى للجميع.
الإشارة : الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال ، يكون من أهل الحق والتحقيق ؛ لأهل الصدق والتصديق. والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق ، يكون لأهل التردد فى سلوك الطريق. والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير. وذكر بيان الطريق ، وفضيلة علم التحقيق ، يكون لأهل الإنكار ؛ إن وصلوا إلى أهل التحقيق. والحاصل : أن الدعاء بالحكمة : لأهل المحبة والتصديق. والدعاء بالموعظة : لأهل التردد فى الطريق. والدعاء بالمجادلة : لأهل الإنكار ؛ حتى يعرفوا الحق من الباطل. وإن شئت قلت : الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار ، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار ، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار. وقد تجتمع فى واحد ؛ إن جمع بين الظاهر والباطن. والله تعالى أعلم.