(ما عِنْدَكُمْ) من أعراض الدنيا (يَنْفَدُ) ؛ ينقضى ويفنى ، (وَما عِنْدَ اللهِ) من خزائن رحمته ، وجزيل نعمته (باقٍ) لا يفنى ، وهو تعليل للنهى عن نقض العهد ؛ طمعا فى العرض الفاني ، (وَلَنَجْزِيَنَ) (١) (الَّذِينَ صَبَرُوا) على الوفاء بالعهود ، أو على الفاقات وأذى الكفار ، أو مشاق التكاليف ، (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بما يرجح فعله من أعمالهم ، كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة : الوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، من شأن الصالحين الأبرار ، كالعباد والزهاد ، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شىء ، ولا يعقدون على شىء ، هم مع ما يبرز من عند مولاهم فى كل وقت وحين ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت ، وذلك من شدة قربهم وفنائهم فى ذات مولاهم. قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) ، فهم يتلونون مع الشئون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدا ، أو أخذ منهم عهدا ، فلا يعول على شىء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم ، بل هى بيد مولاهم. وليس ذلك نقصا فى حقهم ، بل هو كمال (٣) ؛ لأنه يدل على تغلغلهم فى التوحيد حتى هدم عزائمهم ، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم ، وإلّا فحسبه التسليم ، وطرح الميزان عنهم ، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.
وهذه الحالة التي أقامهم الحق تعالى فيها هى الحياة الطيبة ، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))
يقول الحق جل جلاله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ؛ بأن صحبه الإخلاص ، وتوفرت فيه شروط القبول ، (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب ، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) فى الدنيا ، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي : يعيش عيشا طيبا ، فإنه ، إن كان موسرا ، فظاهر ، وإن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة ، والرضا بالقسمة ، وتوقع الأجر العظيم ، بخلاف الكافر ، فإنه ، إن كان معسرا ، فظاهر ، وإن كان موسرا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه ، وقيل : فى الآخرة ، أي : فى الجنة. ه. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعة ، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.
__________________
(١) قرأ ابن كثير وعاصم وأبو جعفر : (ولنجزين) ؛ بالنون ، وقرأ الباقون بالياء على الغيب.
(٢) من الآية ٢٩ من سورة الرحمن.
(٣) العارف الحق هو الذي يلتزم أمر الله ويجتنب مناهيه ، وهو شاهد بقلبه مولاه ، فان عما سواه.