الإشارة : الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية ، منعوت بعظمة الألوهية ، وعبيده موسومون بنقائص العبودية ، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله فى باطنه بكمالات الربوبية ؛ من قوة وعلم ، وغنى وعز ، ونصر وملك ، فليتحقق فى ظاهره بنقائص العبودية ؛ من ذل ، وفقر ، وضعف ، وعجز ، وجهل. فبقدر ما تجعل فى ظاهرك من نقائص العبودية يمدك فى باطنك بكمالات الربوبية ؛ «تحقق بوصفك يمدك بوصفه» ، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرا بين خلقه ، لا منفردا وحده ؛ إذ ليس فيه كبير مجاهدة ؛ إذ كل الناس يقدرون عليه ، وإنما التحقق بالوصف ـ الذي هو ضامن للمدد الإلهى ـ هو الذي يظهر بين الأقران. وبالله التوفيق.
ثم بيّن كمال علمه وقدرته ، بعد أن ذكر كمالات ذاته ، فقال :
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))
قلت : أمهات : جمع أم ، زيدت فيه الهاء ؛ فرقا بين من يعقل ومن لا يعقل ، قاله ابن جزى. والذي لغيره حتى ابن عطية : إنما زيدت ؛ للمبالغة والتأكيد. وقرئ بضم الهمزة ، وبكسرها ؛ اتباعا للكسرة قبلها.
يقول الحق جل جلاله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يعلم ما غاب فيهما ، كان محسوسا أو غير محسوس ؛ قد اختص به علمه ، لا يعلمه غيره. ثم برهن على كمال قدرته فقال : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أي : قيام القيامة ، فى سرعته وسهولته ، (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) ؛ كرد البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) : أو أمرها أقرب منه ؛ بأن يكون فى زمان نصف تلك الحركة ، بل أقل ؛ لأن الحق تعالى يحيى الخلائق دفعة واحدة ، فى أقل من رمشة عين ، و (أَوْ) للتخيير ، أو بمعنى بل. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ؛ فيقدر على أن يحيى الخلائق دفعة ، كما قدر أن يوجدهم بالتدريج.
ثم دلّ على قدرته فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ؛ جهالا ، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) أي : الأسماع (وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي : القلوب ، فتكتسبون ، بما تدركون من المحسوسات ، العلوم البديهية ، ثم تتمكنون من العلوم النظرية بالتفكر والاعتبار ، ثم تدركون معرفة الخالق (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أظهركم أولا من العدم ، ثم أمدكم ثانيا بضروب النعم ، طورا بعد طور ، حتى قدمتم عليه.