وقدّم فى جميع القرآن نعمة السمع على البصر ؛ لأنه أنفع للقلب من البصر ، وأشد تأثيرا فيه ، وأعم نفعا منه فى الدين ؛ إذ لو كانت الناس كلهم صما ، ثم بعثت الرسل ، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع؟ إذ الإشارة تتعذر فى كثير من الأحكام. وإنما أفرده ، وجمع الأبصار والأفئدة ؛ لأن متعلق السمع جنس واحد ، وهى الأصوات ، بخلاف متعلق البصر ، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان ، والأنوار والظلمات ، وسائر المحسوسات ، وكذلك متعلق القلوب ؛ معانى ومحسوسات ، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما غاب فى سماوات الأرواح من علوم أسرار الربوبية ، وفى أرض النفوس من علوم أحكام العبودية ، هو فى خزائن الله ، يفتح منهما ما شاء على من يشاء ؛ إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة ، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده ، بأن يميته عن نفسه ، ثم يحييه بشهود طلعة ذاته ، إلا كلمح البصر أو هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج ، فيخرجه إلى هذا العالم جاهلا ، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ ، وبصره للنظر والاعتبار ، وقلبه للشهود والاستبصار ، حتى يصير عالما عارفا بربه ، من الشاكرين الذين يعبدون الله ، شكرا وقياما برسم العبودية. وبالله التوفيق.
ثم حضّ على التفكير ، الذي هو سبب المعرفة وشبكة العلوم ، فقال :
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))
قلت : (مُسَخَّراتٍ) : حال من (الطَّيْرِ) ، و (سَكَناً) : مصدر وصف به ، أي : شيئا سكنا ، أو : فعل ؛ بمعنى مفعول. و (أَثاثاً) : مفعول بمحذوف ، أي : وجعل من أوبارها أثاثا.