ينبت بذلك العلم طعام نفوسكم من قوت الشريعة ، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة ، وثمرة الأعمال فى عوالم الحقيقة ، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض ، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لما خصكم فيه من مقام التسليم والرضا ، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء ، فتشرق حينئذ شمس العرفان ، ويستنير قمر الإيمان ، وتطلع نجوم العلم ، كل مسخر فى محله ، لا يستتر أحد بنور غيره ، وهذا مقام أهل التمكين ، يستعملون كل شىء فى محله. وما ذأر لكم فى أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية ، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة ، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحما طريا ؛ علما جديدا لم يخطر على قلب بشر ، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحكم ، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.
وترى الفلك ، أي : سفن الفكرة ، فيه مواخر ؛ عائمة فى بحر الوحدة ، بين أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ؛ لتبتغوا من فضله ، وهى معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته ، ولعلكم تشكرون ، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى فى أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريح الهوى ، وأجرى عليها أنهارا من العلوم حين انزجرت عن هواها ، وجعل لها طرقا تهتدى بها إلى معرفة ربها ، فتهتدى أولا إلى نجم الإسلام ، ثم إلى قمر توحيد البرهان ، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.
ولما ذكر دلائل التوحيد ، أنكر على من أشرك بعد هذا البيان ، فقال :
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))
قلت : (وما يشعرون أيان يبعثون) ، الضمير الأول للأصنام ، والثاني للكفار الذين عبدوهم ، وقيل : للأصنام فيهما ، وقيل : للكفار فيهما ، و (لا جرم) : إما أن يكون بمعنى لا شك ، أو لا بد ، أو تكون «لا» نفيا لما تقدم. و «جرم» : فعل ، بمعنى وجب ، أو حق ، و (أن الله) : فاعل بجرم.
يقول الحق جل جلاله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) كل شىء ، ويقدر على كل شيء ، (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) شيئا ، ولا يقدر على شيء ، بل هو أعجز من كل شىء؟ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره ، بعد إقامة الدلائل