أراد أنه حفر فيها الأنهار ، وغرس الأشجار ، وأثّر الآثار ، فلما تبيّنت للناظر صارت كأنها مخبرة.
وقال عوف بن الخرع يذكر الدار (١) :
وقفت بها ما تبين الكلام |
|
لسائلها القول إلا سرارا |
يقول : ليست تبين الكلام لمخاطبها ، إلا أنّ ظاهر ما يرى دليل على الحال ، فكأنه سرار من القول ، ولهذا قالت الحكماء : كل صامت ناطق. يريدون أنّ أثر الصنعة فيه يدل على محدثه ومدبّره.
ومن هذا قول الله عزوجل : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)) [الروم : ٣٥] أي أنزلنا عليهم برهانا يستدلون به ، فهو يدلهم.
ونبيّن له أيضا أن أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر ولا توكّد بالتكرار ، فتقول : أراد الحائط أن يسقط ، ولا تقول : أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة ، وقالت الشجرة فمالت ، ولا تقول : قالت الشجرة فمالت قولا شديدا. والله تعالى يقول : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] فوكّد بالمصدر معنى الكلام ، ونفى عنه المجاز.
وقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النحل : ٤٠] فوكّد القول بالتكرار ، ووكّد المعنى بإنما.
وأما قول من قال منهم : إن قوله للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤ ، والأعراف : ١١ ، والإسراء : ٦١ ، والكهف : ٥٠ ، وطه : ١١٦] إلهام ، (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] أي إلهاما ـ فما ننكر أنّ القول قد يسمى وحيا ، والإيماء وحيا ، والرمز بالشفتين والحاجبين وحيا ، والإلهام وحيا. وكل شيء دللت به فقد أوحيت به ، غير أنّ إلهام النّحل تسخيرها لاتخاذ البيوت ، وسلوك السّبل والأكل من كل الثمرات.
وقال العجّاج وذكر الأرض (٢) :
وحي لها القرار فاستقرّت
أي : سخّرها لأن تستقر ، فاستقرت :
__________________
(١) البيت من المتقارب ، وهو لعوف بن عطية بن الخرع في المفضليات ص ٤١٣.
(٢) يليه :
وشدّها بالراسيات الثّبّت
والرجز في ديوان العجاج ٢ / ٤٠٨ ، ٤٠٩ ، ولسان العرب (وحي) ، وتهذيب اللغة ٥ / ٢٩٦ ، ٢٩٧ ، وجمهرة اللغة ص ٥٧٦ ، وكتاب العين ٣ / ٣٢٠ ، وتاج العروس (وحي) ، والرجز بلا نسبة في مقاييس اللغة ٦ / ٩٣ ، ومجمل اللغة ٤ / ٥١٢.