باب القول في المجاز
وأما (المجاز) فمن جهته غلط كثير من الناس في التأويل ، وتشعّبت بهم الطرق ، واختلفت النّحل : فالنصارى تذهب في قول المسيح عليهالسلام في الإنجيل : (أدعوا أبي ، وأذهب إلى أبي) وأشباه هذا ، إلى أبوّة الولادة.
ولو كان المسيح قال هذا في نفسه خاصة دون غيره ، ما جاز لهم أن يتأوّلوه هذا التأويل في الله ـ تبارك وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ مع سعة المجاز ، فكيف وهو يقوله في كثير من المواضع لغيره؟ كقوله حين فتح فاه بالوحي : إذا تصدّقت فلا تعلم شمالك بما فعلت يمينك ، فإنّ أباك الذي يرى الخفيّات يجزيك به علانية ، وإذا صلّيتم فقولوا : يا أبانا الذي في السماء ليتقدّس اسمك ، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير أبيك.
وقد قرؤوا في (الزّبور) أن الله تبارك وتعالى قال لداود عليهالسلام : سيولد لك غلام يسمّى لي ابنا وأسمّى له أبا.
وفي (التّوراة) أنه قال ليعقوب عليهالسلام : أنت بكري.
وتأويل هذا أنه في رحمته وبرّه وعطفه على عباده الصالحين ، كالأب الرحيم لولده.
وكذلك قال المسيح للماء : (هذا أبي) ، وللخبز : (هذا أمي) ، لأنّ قوام الأبدان بهما ، وبقاء الروح عليهما ، فهما كالأبوين اللّذين منهما النّشأة ، وبحضانتهما النّماء.
وكانت العرب تسمّي الأرض أمّا ، لأنها مبتدأ الخلق ، وإليها مرجعهم ، ومنها أقواتهم ، وفيها كفايتهم.
وقال أميّة بن أبي الصّلت (١) :
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان أمية بن أبي الصلت ص ٢٣ ، والمخصص ١٣ / ١٨٠ ، والحيوان ٥ / ٤٣٧ ، وتفسير القرطبي ١ / ١١٢ ، والبيت بلا نسبة في المذكر والمؤنّث للأنباري ص ١٨٧.