باب ذكر العرب وما خصّهم الله به
من العارضة والبيان واتّساع المجاز
وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره ، واتسع علمه ، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب ، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات ، فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة ، والبيان ، واتساع المجال ، ما أوتيته العرب خصّيصى من الله ، لما أرهصه في الرسول ، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب ، فجعله علمه ، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه :
فكان لموسى فلق البحر ، واليد ، والعصا ، وتفجّر الحجر في التّيه بالماء الرّواء ، إلى سائر أعلامه زمن السّحر.
وكان لعيسى إحياء الموتى ، وخلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص ، إلى سائر أعلامه زمن الطب.
وكان لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، لم يأتوا به ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، إلى سائر أعلامه زمن البيان.
فالخطيب من العرب ، إذا ارتجل كلاما في نكاح ، أو حمالة ، أو تحضيض ، أو صلح ، أو ما أشبه ذلك ـ لم يأت به من واد واحد ، بل يفتنّ : فيختصر تارة إرادة التخفيف ، ويطيل تارة إرادة الإفهام ، ويكرّر تارة إرادة التوكيد ، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين ، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين ، ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء.
وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال ، وقدر الحفل ، وكثرة الحشد ، وجلالة المقام.
ثمّ لا يأتي بالكلام كلّه ، مهذّبا كلّ التّهذيب ، ومصفّى كلّ التّصفية ، بل تجده يمزج ويشوب ، ليدل بالنّاقص على الوافر ، وبالغثّ على السمين. ولو جعله كلّه