فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منى ، ولا برجزه ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذى تقول شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله الذى يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول ففيه ، قال : فدعنى حتى أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره.
ولقد بعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشدّ ما كانت عدة ، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذى يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له ، وقتل عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبنى أعمامهم ، وهو فى ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحدّيا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خفيّا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف ، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا ، قال : فهاتوها مفتريات ، فلم يرم ذلك خطيب ، ولا طمع فيه شاعر ، ولا طبع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامى عليه ، ويكابر فيه ، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض ، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم ، واستحالة لغتهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته ، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأبلغ فى تكذيبه ، وأسرع فى تفريق أتباعه ، من بذل النفوس ، والخروج من الأوطان ، وإنفاق الأموال ، وهذا من جليل التدبر الذى لا يخفى على من هو دون قريش ، والعرب فى الرأى والعقل بطبقات ، ولهم القصيد العجيب ، والرجز الفاخر ، والخطب الطوال البليغة والقاصر الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم ، فمحال أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط فى الامر الظاهر ، والخطا
(م ٢١ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ٢)