ومما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب معا قوله حكاية عن إبراهيم : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
والأمر الكلى المفيد لعرفان مناسبات الآيات فى جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذى سيقت له السورة ، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات ، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات فى القرب والبعد من المطلوب ، وتنظر عند انجرار الكلام فى المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التى تقتضى البلاغة شفاء الغليل ، بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها ، فهذا هو الأمر الكلى المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن ، فإذا عقلته تبين لك وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية فى كل سورة.
ولترتيب وضع السور فى المصحف أسباب تطلع على أنه توفيقى صادر عن حكيم :
أحدها : بحسب الحروف كما فى الحواميم.
الثانى : الموافقة أول السورة لآخر ما قبلها ، كآخر الحمد فى المعنى وأول البقرة.
الثالث : للتوازن فى اللفظ ، كآخر تبت وأول الإخلاص.
الرابع : لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى ، كالضحى وأ لم نشرح.
فسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه فى دين الإسلام ، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية ، وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين ، وآل عمران مكملة لمقصودها. فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم ، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ، ولهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى ، وأوجب الحج فى آل عمران ، وأما فى البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه. وكان خطاب النصارى فى آل عمران أكثر ، كما أن خطاب اليهود فى البقرة أكثر ، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها ، والنبىّ صلىاللهعليهوسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم ، وكان جهاده للنصارى فى آخر الأمر ، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب. ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذى اتفق عليه والأنبياء ، فخوطب به جميع الناس.