قلت : المراغم : المهرب والمذهب. قاله فى القاموس. وقال البيضاوي : يجد متحولا ، من الرغام وهو التراب. وقيل : طريقا يراغم قومه بسلوكه فيها ، أي : يفارقهم على رغم أنوفهم ، وهو أيضا من الرغام.
يقول الحق جل جلاله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه ، (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ) فضاء كثيرا ، ومتحولا كبيرا يتحول إليه ، وسعة بدلا من ضيق ما كان فيه ، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه ، أو سعة فى الرزق ، وبسطا فى المعيشة ، فلا عذر له فى المقام فى مكان مضيّق عليه فيه فى أمر دينه ، (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) وجهاد فى سبيله ، (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) قبل وصوله فقد ثبت أجره ، ووجب على الله ـ وجوب امتنان ـ أن يبلغه قصده بعد موته ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف له من عدم المبادرة ، (رَحِيماً) به ، حيث بلّغه مأموله.
نزلت فى جندع بن ضمرة ، وكان شيخا كبيرا مريضا ، فلما سمع ما نزل فى شأن الهجرة قال : والله ما أنا ممن استثنى الله ، ولى مال يبلغنى المدينة ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، اخرجوا بي ، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم ، فأدركه الموت بها ، فصفّق بيمينه على شماله ، وقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ، فمات حميدا. فقال الصحابة : لو وافى المدينة ، كان أتم أجرا ، وضحك المشركون ، وقالوا : ما أدرك ما طلب. فنزلت : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ ..) إلخ.
وقيل : نزلت فى خالد بن حزام ، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة ، فنهشته حيّة فى الطريق ، فمات قبل أن يصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه ، طلبا للوصول إلى حضرة مولاه ، يجد فى أرض نفسه متسعا للعلوم ، ومفتاحا لمخازن الفهوم ، وسعة الفضاء والشهود ، حتى ينطوى فى عين بصيرته كلّ موجود ، ويتحقق بشهود واجب الوجود. ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله ، ثم يدركه الموت قبل التمكين ، فقد وقع أجره على الله ، وبلّغه الله ما كان قصده وتمنّاه ، فيحشر مع الصديقين أهل الرسوخ والتمكين ، التي تلى درجتهم درجة النبيين ، وكذلك من مات فى طلب العلم الظاهر ولم يدركه فى حياته ، حشر مع العلماء ، قال عليه الصلاة والسلام : «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة واحدة». قلت : وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هى درجة الصديقين المتقدمة قبله.
وكل من مات فى طلب شىء من الخير ، أدركه بعد موته بحسن نيته ، كما فى الأحاديث النبوية ، قال القشيري : المهاجر فى الحقيقة ، من هاجر نفسه وهواه ، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده ،