يقول الحق جل جلاله : (تِلْكَ) الأحكام التي شرعناها لكم فى أمر الوصايا والمواريث ، هى (حُدُودُ اللهِ) حدّها لكم لتقفوا معها ولا تتعدوها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) فيما أمر به وحدّه ، (وَرَسُولَهُ) فيما شرّعه وسنّه (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. وَذلِكَ) هو (الْفَوْزُ) أي : الفلاح (الْعَظِيمُ) ، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) فيما أمر ونهى ، (وَرَسُولَهُ) فيما شرعه ، (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) التي حدها ، فتجاوز إلى متابعة هواه ، (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ). وهذا إذا أنكر مشروعيتها فيكون كافرا ، وإلّا كان عاصيا فى حكم المشيئة ، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد ، وحملوا الآية على الكافر ، أو عبارة عن طول المدة ، كما فى قاتل النفس. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد حدّ الحق ـ جل جلاله ـ لأهل الشريعة الظاهرة حدودا قام ببيانها العلماء ، وحدّ لأهل الحقيقة ـ وهى سر الولاية ـ حدودا ، قام بها الأولياء ، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين ، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين ، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية ، وصحب أهلها كان من المحسنين العارفين المقربين ، ودخل جنة المعارف ، ومن تعدّ حدود الحقيقة ، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين ، وله عذاب الحجاب فى غم الحساب ، وقال فى الحاشية : فى حد حدوده إشارة للعبودية ، فى إخراج كل عن نظره واختياره ، ثم انقياده وذلته لحكم ربه ، والوقوف عند حدوده.
وقال الورتجبي : قيل : (تلك حدود الله) أي : الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها ، فإن التعدي فيها يهلكهم ، وقال أبو عثمان : ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. ه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا فرغ الحق تعالى من الأمر بحفظ الأموال ، شرع فى الكلام على حفظ الأنساب ، وقدّم الكلام أولا على الزنى ؛ إذ به تختلط الأنساب ، ويختل نظام حفظها ، ثم تكلم بعد على النكاح وما يحرم من النساء وما يحل ، فقال :
(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))
يقول الحق جلا جلاله : (وَ) النساء (اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي : الزنى ، سمّى فاحشة لفحش قبحه وبشاعة فعله شرعا ، (مِنْ نِسائِكُمْ) المسلمات ، (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَ) أي : اطلبوا من رماهنّ بذلك أن يشهدوا