يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ) ارتدوا عن الإيمان ، (ثُمَّ ازْدادُوا) فى الكفر ، وقالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) أي : لا توبة لهم فتقبل ، لأنه سبق لهم الشقاء ، أو لأنهم لا يتوبون إلا عند الغرغرة ، أو (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ما داموا على كفرهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) المنهمكون فى الضلالة.
قيل : نزلت فى أصحاب الحارث بن سويد المتقدم ، وكانوا أحد عشر رجلا ، لما رجع الحارث قالوا : نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا ، فمتى أردنا الرجعة رجعنا ، فلما افتتح النبي صلىاللهعليهوسلم مكة ، دخل فى الإسلام بعضهم ، فقبلت توبته ، وبقي من بقي على كفره ، فنزلت الآية فيهم. وقيل : نزلت فى اليهود ، كفروا بعيسى بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : نزلت فى النصارى كفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم بعد إيمانهم بعيسى ، (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بإصرارهم عليه. وقيل : نزلت فى الفريقين معا ، كفروا بنبينا محمد صلىاللهعليهوسلم بعد إيمانهم به قبل ظهوره ، (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بتمردهم فيه ، وتماديهم على المعاصي. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن من دخل طريق التربية ، وأخذ فى تهذيب نفسه وتطهيرها من المساوئ وأوساخ الحس ، ثم غلبته القهرية ورجع عنها ، فإن تاب قريبا ورجع إليها سهل عليه الرجوع ، ورجى نجحه وقبلت توبته ، وإن استمر على رجوعه عنها حتى ألفت نفسه البطالة ؛ لن ترجى توبته وصار من الضالين ، فمثله كآنية ، فرّغت منها لبنا أو عسلا ، وعمرتها بالقطران ، فإن بادرت بإهراقه منها قريبا سهل غسلها ، وإن أمهلتها حتى صبغ فيها عسر غسلها ، وتعذر زوال رائحته منها. [فإن مات على رجعته فلا يحشر فى الآخرة مع أهل هذه الرفقة ، ولو شفع فيه ألف عارف ، بل من كمال المكر به أن يلقى شبهه فى الآخرة على غيره ، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو ، فلا يخطر بباله أنه يشفع فيه]. قاله القشيري.
قال المحشى : وما ذكره ربما ينظر إلى قضية الخليل مع أبيه ، حين يلقاه وعليه القترة ، فيريد الشفاعة له ، فيمسخ ذيخا (١) متلطخا ـ أي : خنزيرا ـ فينكره ، كما فى الحديث الصحيح ، فتذكر واعتبر. ه. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم ذكر من مات على كفره ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))
__________________
(١) الذيخ ـ بكسر الذال بعدها ياء ساكنة ـ : ذكر الضباع. والجمع : أذياخ وذيوخ وذيخة. وأراد بالتلطخ : التلطخ برجيعه أو بالطين.