ثم كذّبهم الحق ـ تعالى ـ فقال : (بَلى) ؛ عليهم فى ذلك سبيل ، فإن (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) الشرك والمعاصي (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ومن أحبه الله كيف يباح ماله وتسقط حرمته؟! بل من أسقط حرمته فقد حارب الله ورسوله ، أو (مَنْ أَوْفى) ، بعهد الله من أهل الكتاب ، فآمن بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَاتَّقى) الخيانة ، وأدى الأمانة ، (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). وأوقع المظهر موقع الضمير العائد إلى «من» ؛ لعمومه ، فإن لفظ المتقين عام يصدق برد الودائع وغيره ، إشعارا بأن التقوى ملاك الأمر وسبب الحفظ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد رأينا بعض الفقراء دخل بلد الحقيقة فسقطت من قلبه هيبة الشريعة ، فتساهل فى أموال الناس وسقطت لديه حرمة العباد ، حتى لا تثق به فى حفظ مال ولا أهل ، فإذا أودعته شيئا أو قارضته لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. وهذه زندقة ونزعة إسرائيلية ، لا يرضاها أدنى الناس ، فما بالك بمن يدعى أنه أعلى الناس ، وفى بعض الحكم : [كمال الديانة ترك الخيانة] ، وأعظم الإفلاس خيانة الناس ، وفى الحديث : «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صلّى وإن صام وزعم أنه مؤمن ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان». فإذا احتج لنفسه الأمارة ، وقال : لا سبيل علينا فى متاع العوام ، فقد خلع من عنقه ربقة الإسلام ، واستحق أن يعلو مفرقه الحسام. والله تعالى أعلم.
ومن جملة الخيانة : أكل أموال الناس بالأيمان الفاجرة ، كما أشار إلى ذلك الحق ـ تعالى ـ فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) أي : يستبدلون بالوفاء بعهد الله كالإيمان بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ الذي أخذ على بنى إسرائيل فى التوراة وبيان صفته ، وأداء الأمانة ، فكتموا ذلك واستبدلوا به (ثَمَناً قَلِيلاً) ؛ حطاما فانيا من الدنيا ، كانوا يأخذونه من سفلتهم ، فخافوا إن بيّنوا ذلك زال ذلك عنهم ، وكذلك الأيمان التي أخذها الله عليهم لئن أدركوا محمدا صلىاللهعليهوسلم ليؤمنن به ولينصرنه ، فنقضوها ، خوفا من زوال رئاستهم ، فاستبدلوا بالوفاء بها ثمنا قليلا فانيا ، (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) أي : لا نصيب لهم ، (فِي الْآخِرَةِ ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بما يسرهم ، أو بشىء أصلا ، وإنما الملائكة تسألهم ، (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) نظرة رحمة ، بل يعرض عنهم ، غضبا عليهم وهوانا بهم ، (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ؛ لا يطهرهم من ذنوبهم ، أو لا يثنى عليهم ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : موجع.
قال عكرمة : نزلت فى أبى رافع وكنانة بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب ، وغيرهم من رؤساء اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم فى التوراة فى شأن النبي صلىاللهعليهوسلم من بيان صفته ، فكتموا ذلك وكتبوا غيره ، وحلفوا أنه من عند الله ، لئلا يفوتهم الرشا من أتباعهم.