وقال بعضهم : صدق المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شىء سواه. فالانقطاع إلى الله فى الصغر يخدم على الإنسان فى حال الكبر ، ومعاصى الصغر تجر الوبال إلى الكبر ، فكما أن عيسى عليهالسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، كذلك من انقطع بكلّيته إلى الله أبرأ القلوب السقيمة بإذن الله ، وأحيا موتى القلوب بذكر الله ، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب ، يدل على طاعة الله ، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله ، يهدى الناس إلى الصراط المستقيم ، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما تمت البشارة بعيسى عليهالسلام وظهر إلى الدنيا ، وبلغ وقت الدعوة ، بعثه الله إلى بنى إسرائيل ، فكفروا به ، فلما تحقق كفرهم طلب من ينصره إلى الله ، كما أشار الحق تعالى إلى ذلك بقوله :
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))
قلت : (من أنصارى إلى الله) : الجار يتعلق بحال محذوفة ، أي : ذاهبا إلى الله إلى نصر دينه ، أو مضيفا نفسه إلى الله ، أو ملتجئا إلى الله ، أو يتعلق ب ـ (أنصارى) ؛ مضمّنا معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله فى نصره. وحوارى الرجل : خاصته ، الذين يستعين بهم فى نوائبه ، وفى الحديث عنه ـ عليه الصلاة السلام ـ : «لكلّ نبى حوارى ، وحواريى : الزّبير». وحواريو عيسى : أصحابه الذين نصروه ، وسموا بذلك لخلوص نبيتهم ونقاء سريرتهم. والحور : البياض الخالص ، وكل شىء بيّضته فقد حوّرته ، ويقال للبيضاء من النساء : حوارية. وقيل : كان الحواريون قصّارين (١) ، يحوّرون الثياب ، أي : يبيضونها ، وقيل : كانوا ملوكا يلبسون البياض.
يقول الحق جل جلاله : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) من بنى إسرائيل (الْكُفْرَ) ، وتحققه تحقّق ما يدرك بالحواس ، بعد ما بعث إليهم ، وأرادوا قتله ، فرّ منهم واستنصر عليهم ، و (قالَ مَنْ أَنْصارِي) ملجئا (إِلَى اللهِ) ، أو ذاهبا إلى نصر دينه ، (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي : أنصار دينه ، (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ) علينا بأننا (مُسْلِمُونَ) ؛ لتشهد لنا يوم القيامة ، حين يشهد الرسل لقومهم ، (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) على نبيك من الأحكام ، (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى عليهالسلام ، (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) بوحدانيتك ، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك
__________________
(١) القصار : المبيض للثياب ، وهو الذي يهيىء النسيج بعد نسجه ، ببلّه ودقه بالقصرة ـ التي هى القطعة من الخشب.