اليقين إلى عين اليقين ، وقيل : لما قال للنمرود : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) قال له : هل عاينت ذلك؟ فلم يقدر أن يقول : نعم. وانتقل إلى حجة أخرى ، ثم سأل ربه أن يريه ذلك ؛ ليطمئن قلبه على الجواب ، إن سئل مرة أخرى ، فقال له الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بأنى قادر على الإحياء بإعادة التركيب والحياة؟ وإنما قال له ذلك ، مع علمه بتحقيق إيمانه ؛ ليجيبه بما أجاب فيعلم السامعون غرضه ، (قالَ) إبراهيم عليهالسلام : (بَلى) آمنت أنك على كل شىء قدير ، (وَلكِنْ) سألتك (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ؛ إذ ليس الخبر كالعيان ، وليس علم اليقين كعين اليقين ، أراد أن يضم الشهود والعيان إلى الوحى والبرهان.
قال له الحق جل جلاله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) ؛ طاووسا وديكا وغرابا وحمامة ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام ، (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي : اضممهن إليك لتتأملها وتعرف أشكالها ، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء أشكالها ، (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي : ثم جزّئهن ، وفرق أجزاءهن على الجبال التي تحضرك. قيل : كانت أربعة وقيل : سبعة ، (ثُمَّ ادْعُهُنَ) وقل لهن : تعالين بإذن الله ، (يَأْتِينَكَ سَعْياً) أي : ساعيات مسرعات ، روى أنه أمر أن يذبحها وينتف ريشها ، ويقطعها ويخلط بعضها ببعض ، ويوزعها على الجبال ، ويمسك رءوسها عنده ، ثم يناديها ، ففعل ذلك ، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر ويلتئم بصاحبه حتى صارت جثثا ، ثم أقبل إليه فأعطى كل طير رأسه فطار فى الهواء. فسبحان من لا يعجزه شىء ، ولا يغيب عن علمه شىء ، ثم نبه إلى التفكر فى عجائب قدرته وحكمته فقال : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شىء ، (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة فيما يفعل ويذر.
الإشارة : من أراد أن تحيا روحه الحياة الأبدية ، وينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين ، فلا بد أن تموت نفسه أربع موتات :
الأولى : تموت عن حب الشهوات والزخارف الدنيوية ، التي هى صفة الطاووس.
الثانية : عن الصولة والقوى النفسانية ، التي هى صفة الديك.
الثالثة : عن خسة النفس والدناءة وبعد الأمل ، التي هى صفة الغراب.
الرابعة : عن الترفع والمسارعة إلى الهوى المتصف بها الحمام.
فإذا ذبح نفسه عن هذه الخصال حييت روحه ، وتهذبت نفسه ، فصارت طوع يده ، كلما دعاها إلى طاعة أتت إليها مسرعة ساعية.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو الحسن الشاذلى بقوله فى حزبه الكبير : (واجعل لنا ظهيرا من عقولنا ومهيمنا من أرواحنا ، ومسخرا من أنفسنا ، كى نسبحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا ، إنك كنت بنا بصيرا).