النشوان من خراب الظاهر ، وصدور الأحوال الغريبة ، ونفعهما خاص عند خواص الخواص ، لا يفهمه إلا الخواص ، بل يجب كتمه عن غير أهله. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم وقع سؤال ثالث عن قدر المنفق ، فأشار إليه الحق جل جلاله بقوله :
(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
قلت : (العفو) : ضد الجهد ، وهو السهل ، ويقال للأرض السهلة : عفو ، والمراد : أن ينفق ما تيسر بذله ، ولا يبلغ به الجهد ، وهو خبر ، أو مفعول ، أي : هو العفو ، أو ينفقون العفو.
يقول الحق جل جلاله : (وَيَسْئَلُونَكَ) ما القدر الذي ينفقونه؟ (قُلْ) لهم : هو (الْعَفْوَ) أي : السهل الذي لا مشقة فى إعطائه ، ولا ضرر على المعطى فى فقده ، روى أن رجلا أتى النبي صلىاللهعليهوسلم بقدر بيضة من الذهب ، فقال : خذها عنى صدقة ، فأعرض عنه ، حتى كرّر مرارا ، فقال : هاتها ، مغضبا ، فحذفها حذفا لو أصابه لشجّه ، فقال : «يأتى أحدكم بماله كلّه يتصدّق به ، ويجلس يتكفّف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى». قاله البيضاوي مختصرا.
قلت : وهذا يختلف باختلاف اليقين ؛ فقد تصدّق الصدّيق رضي الله عنه بماله كله ، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله ، فأقرهما ، وردّ فعل غيرهما ، فدلّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص ، على حسب اليقين.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي : مثل هذا التبيين الذي ذكرنا ، (يبين) لكم الآيات ، حتى لا يترك لكم إشكالا ولا وهما ، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) بعقولكم ، وتأخذون بما يعود نفعه عليكم ، فتتفكرون (فِي الدُّنْيا) وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها ، إذا أقبلت كانت فتنة ، وإذا أدبرت كانت حسرة ، لا يفى طالبها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها ، ضيقة الزمان والمكان ، عمارتها إلى الخراب ، وشأنها إلى انقلاب ، سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها.
وفى الحديث عنه صلىاللهعليهوسلم : «مالى وللدنيا ، إنما مثلى ومثل الدنيا كرجل سافر فى يوم صائف ، فاستظلّ تحت شجرة ، ثم راح وتركها». وفى صحف إبراهيم عليهالسلام : «عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ـ أي : يتعب ـ عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها». وأنشدوا :