العارفين أهل الإكسير ، فسوء الأدب فيه أمره كبير ، ومنع القاصدين من وصوله جرمه كبير ، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير ، ولا يزال قطّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق ، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد ، ومن سبق له الحرمان ، وحكم عليه القضاء بالخذلان ، رجع ولو بعد العيان ، وأنشدوا :
والله ما نشكر خليع |
|
وإن ثمل. وان صحا |
وإن ثبت ، سير سريع |
|
وإن شرب حتّى امتحا |
حتى يقطّع فى القطيع |
|
ويدور دور الرحا (١) |
إن الذين آمنوا وصدّقوا بطريق الله ، وهاجروا أهواءهم فى مرضاة الله ، وجاهدوا نفوسهم فى محبة الله ، أولئك يرجون رحمة الله ، فلا يخيبهم الكريم ؛ لأنه غفور رحيم.
ولمّا كان الخمر حلالا فى أول الإسلام ، وكانوا يشربونه ، ويتّجرون فيه ، فيتصدقون بثمنه وبثمن القمار ، بيّن الحق تعالى ذلك ، بعد الأمر بالإنفاق ؛ لئلا يقع التساهل فى المعاملة بعلّة الصدقة ، فقال :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ...)
قلت : الخمر فى اللغة : ما يستر الشيء ويغطيه ، ومنه : خمار المرأة ، وسمّى الخمر خمرا لستره العقل. وفى الاصطلاح : ما غيّب العقل دون الحواس مع النّشوة والطرب. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ مسكر خمر وكلّ خمر ، حرام».
والميسر : قال ابن عباس والحسن : كل قمار ميسر ، من شطرنج ونرد ونحوه ، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب ، إذا كان بالفلوس ، وسمى ميسرا ليسر صاحبه بالمال الذي يأخذه ، وأما إذا كان بغير عوض ، إنما هو لعب فقط ، فلا بأس. قاله ابن عرفة.
يقول الحق جل جلاله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ) حكم (الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ) لهم : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي : عظيم لما فى الميسر من أكل أموال الناس بالباطل ، وما ينشأ عنه من العداوة والشحناء ، وما فى الخمر من إذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية ، والتعدّى الذي يكون من شاربه. وقرأ حمزة والكسائي : كثير بالمثلثة ، أي : آثام كثيرة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : «لعن الله الخمر ، وبائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ،
__________________
(١) زجل للششترى.