الإشارة : الإنفاق على قسمين : حسىّ ومعنوى ، الإنفاق الحسى هو بذل الأموال والفلوس ، والإنفاق المعنوي هو بذل الأرواح والنفوس ، فمن بذل أمواله لله عوضه الله جنة الزخارف ، ومن بذل نفسه لله عوضه الله جنة المعارف ، ومن دخل جنة المعارف لا يشتاق إلى جنة الزخارف ، وكما أن لنفقة الأموال محلا تصرف فيه ، كما ذكره الحق تعالى هنا ، كذلك لنفقة النفوس محل تصرف فيه ؛ وهو خدمة الشيوخ العارفين بالله ، والإخوان الذين يستعين بهم على الوصول إلى الله ، وكذلك من احتاج إليه من اليتامى الذين لا شيخ لهم ، فيرشدهم وينصحهم ، والمساكين الضعفاء الذين لا قدرة لهم على مجاهدة نفوسهم ، فيقويهم بحاله أو مقاله ، والغريب الذي انفرد عن الإخوان ، ولم يجد ما يستعين به على سيره فيرشده إلى الصحبة والاجتماع بأهل المحبة ، وإلى هذا المنزع أشار الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :
وبالتغنّى على الإخوان جد أبدا |
|
حسّا ومعنّى ، وغضّ الطّرف إن عثرا |
ولمّا ذكر الحق جل جلاله قواعد الإسلام ، وهى الصلاة والزكاة والصوم والحج ، بعد أن أشار إلى كلمة التوحيد بقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، ذكر الجهاد ـ الذي هو حفظ نظامه ـ فقال :
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))
قلت : الكره ـ بالضم ـ : اسم لما يشقّ على النفس ، وبالفتح المصدر.
يقول الحق جل جلاله : فرض عليكم الجهاد ، وهو شاق عليكم ، تكرهه نفوسكم ، وفيه خير كبير لكم ، (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، ففى الجهاد نصر دينكم ، وإعلاء كلمة إسلامكم ، والغنيمة والظّفر بعدوكم ، والأجر الكبير عند ربكم ، من مات كان شهيدا ، ومن عاش عاش سعيدا ، وكذلك بقية التكاليف ، فإن النفس تكره الإقدام عليها ، وهى مناط صلاحها ، وسبب فلاحها ، (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) فقد تحبون الراحة وترك الجهاد وفى ذلك ذلّكم ، وظهور العدو عليكم ، وفوات الأجر من ربكم ، وحرمان درجة الشهادة عند ربكم. وكذلك جميع المنهيات ؛ فإن النفس تحبها بالطبع ، وتشره إليها ، وهى تفضى بها إلى ذلها وهوانها ، وعبّر الحق سبحانه بعسى ؛ لأن النفس إذا ارتاضت انعكس الأمر عليها ، فيخف عليها أمر الطاعة ، ويصعب عليها أمر المخالفة ، (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه مصلحتكم ، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ؛ لجهلكم بعواقب أموركم.