للروح من الجهل والإنكار ، فمن سبقت له العناية آمن بهم ، وصدقهم ، واستسلم بكليته إليهم ، فحصل له الوصول ، وبلغ كل المأمول ، ومن سبق له الحرمان لم يحصل له بهم إيمان ، وبقي دائما فى قلبه حيران.
وما وقع هذا الإنكار فى الغالب إلا من أهل الرئاسة والجاه ، أو من كان عبدا لدنياه وهواه ، بغيا وحسدا منهم ، فهدى الله الذين آمنوا ـ وهم أهل الفطرة والنية ـ لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فحصل لهم التصديق ، ووصلوا إلى عين التحقيق ، (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو طريق الوصول إلى الحضرة القدسية التي كانت مقرا للأرواح الزكية ، منها جاءت وإليها عادت. وفى ذلك يقول ابن البنا رضي الله عنه :
وهذه الحقيقة النّفسيّة |
|
موصولة بالحضرة القدسيّة |
وإنّما يعوقها الموضوع |
|
ومن هنا يبتدأ الطّلوع |
ولمّا كانت المحبة والهداية إلى أسبابها مقرونتين بالبلاء ذكره الحق تعالى بإثر الهداية ، فقال :
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))
قلت : «أم» منقطعة بمعنى بل ، وتتضمن استفهاما إنكاريا ، و «حسب» تتعدى إلى مفعولين ، أي : أظننتم دخول الجنة حاصلا من غير أن يأتيكم؟. (لما) أصلها (لم) زيدت عليها «ما» : وهى تدل على توقع منفيها بخلاف لم. و (حتى يقول) يصح فى النصب بتقدير (أن) ؛ لأن الزلزلة متقدمة على قول الرسول ، والرفع على حكاية الحال ، أي : وزلزلوا حتى حالتهم حينئذ أن الرسول ومن معه يقولون كذا وكذا. وفائدة الحكاية : فرض ما كان واقعا فى الزمان الماضي واقعا فى هذا الزمان ، تصورا لتلك الحال العجيبة ، واستحضارا لصورتها فى مشاهدة السامع ، وإنما وجب رفعه عند إرادة الحال ؛ لأن نصبه يؤدى إلى تقدير (أن) ، وهى للاستقبال ، والحال ينافيه ، ويصح فى موضع «حتى» الداخلة على الحال الفاء السببية.
يقول الحق جل جلاله للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنين ، تسلية لهم وتشجيعا لقلوبهم : أظننتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من الأنبياء وأممهم ، فقد (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ) فى أموالهم بالغصب والنهب والموت (وَالضَّرَّاءُ) فى أبدانهم بالقتل فى الحرب والمرض وأنواع البلاء ، (وَزُلْزِلُوا) أي : ضربوا بالمحن والشدائد ، وطال عليهم البلاء ، وتأخر عنهم النصر ، حتى أفضى بهم الحال إلى أن قالوا : (مَتى) يأتينا (نَصْرُ اللهِ)؟ استبطاء لمجيئه مع شدة البلاء.