عن الصواب ، فى (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي : عطاء ورزقا تستفيدونه من التجارة فى مواسم حجكم ، إذا خلصت نيتكم ، وغلب قصد الحج على التجارة.
وهاهنا قاعدة ذكرها الغزالي فى الإحياء ، وحاصلها : أن العمل إذا تمحّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب ، وإذا تمحض لله خالصا فهو سبب القرب والثواب ، وإذا امتزج بشوب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث ؛ فإن كان باعث الحظ أغلب ، سقط ، وكان إلى العقوبة أقرب ، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله ، وإن كان باعث التقرب أغلب ، حط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ ، وإن تساويا تقاوما وتساقطا وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال : ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجا ومعه تجارة صحّ حجه وأثيب عليه. ثم قال : والصواب أن يقال : مهما كان الحج هو المحرّك الأصلى ، وكان غرض التجارة كالتابع ، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ، ثم طرّد هذا الاعتبار فى الجهاد باعتبار الغنيمة ، يعني : ينظر لغالب الباعث وخلوص القصد ، وكذلك الصوم للحمية والثواب ، ينظر لغالب الباعث.
قلت : وتطرّد هذه القاعدة فى المعاملات كلها ، وجميع الحركات والسكنات والحرف وسائر الأسباب ، فالخالص من الحظوظ مقبول ، والمتمحض للحظوظ مردود ، والمشوب ينظر للغالب كما تقدم.
وقد ذكر شيخ المشايخ سيدى أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال : إذا أكرم الله عبدا فى حركاته وسكناته ، نصب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه ، وجعله يتقلب فى عبوديته ، والحظوظ عنه مستورة ، مع جرى ما قدّر له ، ولا يلتفت إليها ؛ لأنها فى معزل عنه ، وإذا أهان الله عبدا فى حركاته وسكناته ، نصب له حظوظ نفسه ، وستر عنه عبوديته ، فهو يتقلب فى شهواته ، وعبودية الله عنه بمعزل ، وإن كان يجرى عليه شىء منها فى الظاهر ، قال : وهذا باب من الولاية والإهانة. وأما الصّدّيقية العظمى ، والولاية الكبرى ، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوى البصيرة ؛ لأنه بالله فيما يأخذ ويترك. ه.
الإشارة : العبد لا يستغنى عن طلب الزيادة ، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية ، فالقناعة من الله حرمان ، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان ، فليس عليكم جناح أيها العارفون أن تبتغوا فضلا من ربكم زيادة فى إيقانكم ، وترقّيا فى معانيكم ، إذ كمالات الحق لا نهاية لها ، وأسرار الذات لا إحاطة بها ، قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). والله ولى التوفيق.