يقول الحق جل جلاله : كتب الله (عَلَيْكُمْ) أن توصوا للوالدين والأقربين (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، إِنْ تَرَكَ) المستحضر (خَيْراً) أي : مالا ، قال سيدنا علىّ ـ كرم الله وجهه ـ : (ألف درهم فصاعدا ، فلا وصية فى أقل). وقال النخعي : (خمسمائة درهم لا أقل). وقال الزّهرى : (تجب فيما قل وكثر) ، وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ : (أن رجلا أراد أن يوصى ، فسألته : كم مالك؟ فقال : ثلاثة آلاف. فقالت : كم عيالك؟ فقال : أربعة ، فقالت : لا ، إنما قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشئ يسير ، فاتركه لعيالك).
وتكون تلك الوصية (بِالْمَعْرُوفِ) ، أي : بالعدل ، فلا يفضل الذكور ، ولا يتجاوز الثلث. قد حقّ الله ذلك (حَقًّا) واجبا (عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، فمن غيّره من الأوصياء أو الشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وعلمه ، (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) من الأوصياء أو الشهود ، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيّر دون الميت ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه من بدّل أو غيّر ، فهو حسيبه ومعاقبه ، (فَمَنْ خافَ) أي : علم (مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) أي : ميلا بالخطأ فى الوصية ، (أَوْ إِثْماً) تعمدا للجنف ، (فَأَصْلَحَ) بين الموصى لهم وبين الورثة ، بأن أجراهم على منهاج الشرع ، أو نقص للموصى لهم ، أو زاد لمصلحة رآها (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ؛ لأنه تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر للمبدّل لمصلحة ويرحمه.
وهذه الآية منسوخة فى وصية الوالدين ، محكمة فى الأقربين غير الوارثين ، بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى الحديث المشهور : «إنّ الله أعطى كلّ ذى حقّ حقّه. فلا وصيّة لوارث» ، فإذا كان الوالدان غير وارثين كالكافرين أو العبدين فهى محكمة ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات ، وحفظ قلبه من الخطرات ، وصان سره من الغفلات ـ وأعظم الشهوات حبّ الرئاسة والجاه ، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السّفليات حتى حضرها الموت ، وانقطع عنها الخواطر والخيالات ـ فإنها تفيض بالعلوم والواردات ، فالواجب من طريق الجزم أن يقيد تلك العلوم ، أو يوصى من يقيدها لينتفع بها الوالدان وهما الأشياخ ، والأقربون وهم الإخوان. فإن الحكمة ترد فى حال التجلي كالجبل ، فإن لم يقيدها وأهملها رجعت كالجمل ، فإن أهملها رجعت كالكبش ، فإن أهملها رجعت كالطير ، ثم ترجع كالبيضة ثم تذهب. هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي الله عنه ، وكان شيخه سيدى العربي بن عبد الله يقول له : (إن ورد عليك وارد فقيّده وأعطنى منه نسخة). وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات ، فمن قيّد واردا