فلا يقلع الهوى من قلوبهم إلا بسابق العناية ، أو هبوب ريح الهداية ، فتثير فى قلوبهم خوفا مزعجا ، أو شوقا مقلقا ، أو نورا خارقا (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ).
ولما فرغ من تذكير الكفار وتخويفهم ذكّر المؤمنين ، فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))
قلت : أصل اضطرّ : أضترر ، على وزن افتعل ، من الضرر ، أبدلت التاء طاء لقرب مخرج التاء من الطاء ، قال فى الألفية :
طاتا افتعال ردّ إثر مطبق
ثم أدغمت الراء فى الراء بعد ذهاب حركتها ، وقرأ أبو جعفر : بكسر الطاء حيث وقع. ووجهه : نقل حركة الراء إلى الطاء ، وأصل البغي : قصد الفساد ، يقال : بغى الجرح بغيا ، إذا ترامى إلى الفساد ، ومنه قيل للزنا : بغاء ، وللزانية : بغى ، وأصل العدوان : الظلم ومجاوزة الحد ، يقال : عدا يعدو عدوانا وعدوا.
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا) من لذيذ (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وقفوا عند ما حلّ لكم ولا تحرموا برأيكم ما أحللنا لكم ، كما فعل من سلف قبلكم ، (وَاشْكُرُوا) نعمة الله عليكم الظاهرة والباطنة (إِنْ كُنْتُمْ) تخصّونه بعبادتكم ، فقد أحللنا لكم جميع ما خلقنا لكم على وجه الأرض التي تقلكم.
(إِنَّما) حرمنا (عَلَيْكُمُ) ما فيه ضرركم كالميتة لخبثها ، (وَالدَّمَ) لأنه يقسى قلوبكم ، (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) لأنه يورث عدم الغيرة ، وما ذكر عليه غير اسم الله ، وهو الذي (أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي : رفع الصوت عند ذبحه لغير الله ، وهو الصنم (فَمَنِ اضْطُرَّ) وألجئ إلى شىء من هذه المحرمات ، (غَيْرَ باغٍ) أي : ظالم بأكلها اختيارا ، (وَلا عادٍ) متعدّ يتعدى الحلال إلى الحرام ، فيأكلها وهو غنى عنها (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، أو (غَيْرَ باغٍ) غير قاطع للطريق ، (وَلا عادٍ) : مفارق للأمة خارج عن الجماعة ، فمن خرج يقطع الرحم ، أو يخيف ابن السبيل ، أو يفسد فى الأرض ، أو أبق من سيده ، أو فرّ من غريمه أو عاصيا بسفره ، واضطر إلى شىء من هذه ، فلا تحلّ له حتى يتوب ويأكل ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقال سهل بن عبد الله : (غَيْرَ باغٍ) : غير مفارق للجماعة (وَلا عادٍ) : مبتدع مخالف للسنة ، فلم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات.