ربكم ، ورفعنا فوق رؤوسكم سيوف التخويف ، أو جبال التشويق ، وأوضحنا لكم سواء الطريق ، وقلنا لكم : خذوا ما آتيناكم من خرق العوائد ، واكتساب الفوائد ، بجد واجتهاد ، فأبيتم وعزّت عليكم نفوسكم ، وقلتم بلسان حالكم : سمعنا وعصينا ، وأشربت قلوبكم حب العاجلة ، وآثرتم الدنيا على الآخرة ، بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين.
ومن جملة ما ادعاه اليهود اختصاصهم بالجنة ، فردّ الله عليهم بقوله :
(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥))
قلت : (خالصة) خبر كان ، و (عند) متعلق بكان على الأصح.
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد لبنى إسرائيل الذين ادعوا أن الجنة خاصة بهم : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ) أي : فى غيبه ، (خالِصَةً) لكم (مِنْ دُونِ) سائر (النَّاسِ) ، أو من دون المسلمين ، (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى اختصاصكم بها ، فإن العبد إذا تحقق أنه صائر إليها اشتاق إلى الموت الذي يوصل إليها ، كما قال عمار رضي الله عنه عند موته :
الآن ألاقى الأحبّه |
|
محمّدا وحزبه |
وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتضر : (جاء حبيب على فاقة ، لا أفلح من ندم). أي : على التمني ، أو على الدنيا.
قال تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) بسبب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والعصيان ، فما تمناه أحد منهم قط ، قال ابن عباس : (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم فى النار). وقال فى الإحياء : (دعا ـ عليه الصلاة والسلام ـ اليهود إلى تمنى الموت ، وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه ، فحيل بينهم وبين النطق بذلك). وذكر غيره : أن بعضهم تمناه ، فما جاءت العشاء حتى أخذته الدّبحة فى حلقه فمات (١). (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون فى دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن هو لهم.
__________________
(١) لم أقف على ما يفيد ذلك : ولو وقع لنقل واشتهر لتوافر الدواعي إلى نقله ؛ لأنه أمر عظيم. بل على العكس ؛ فالأخبار الواردة فى أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر ، كما يقول الفخر الرازي.