قلت : (حطة) : خبر مبتدأ مضمر ، أي : أمرنا حطة ، أي : تواضع وانحطاط ، وقال هنا : (فكلوا) ، وفى الأعراف بالواو ؛ لأن الأكل مرتب على الدخول ، بخلاف السكنى ، فإنها تفارق الأكل ، فكأنه مأمور به.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا يا بنى إسرائيل حين قلنا لأسلافكم بعد أن خرجوا من التيه : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أعنى بيت المقدس ، أو أريحا ، بعد أن تجاهدوا أهلها ، (فَكُلُوا) من نعم ما فيها أكلا واسعا ؛ لأنها مخصبة ، (وَادْخُلُوا) باب القرية راكعين ، تواضعا وشكرا ، (وَقُولُوا) فى دخولكم : شأننا (حِطَّةٌ) ، أي : شأننا الانحطاط والتواضع لله ، فإن فعلتم ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ ، وَسَنَزِيدُ) من امتثل أمرنا ، وأحسن الأدب معنا ، خيرا كثيرا ، فى الدنيا والآخرة ، (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) منهم قولا غير الّذي أمروا به ، وقالوا مكان حطة : حنطة ، حبة فى شعرة ، (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ) قيل : هو الطاعون ، فمات منهم سبعون ألفا فى يوم واحد ، بسبب فسقهم وتعديهم الحدود.
الإشارة : يقول الحق سبحانه للأرواح ، لما كمل تطهيرها من البقايا ، وتكاملت فيها المزايا : ادخلوا هذه الحضرة المقدسة ، وتنعموا فيها حيث شئتم بالمشاهدة ، والمكالمة ، والمواجهة ، والمساورة ، والمفاتحة ، والمناجاة ، وادخلوا بابها أذلاء صاغرين ، فلا دخول للحضرة المقدسة إلا من باب الذل والافتقار ، وأنشدوا :
وما رمت الدخول عليه حتّى |
|
حللت محلة العبد الذليل |
وأغمضت الجفون على قذاها |
|
وصنت النفس عن قال وقيل (١) |
وقيل لأبى يزيد : يا أبا يزيد ، خزائننا معمورة بالخدمة ، ائتني من كوة الذل والافتقار. وفى رواية قيل له : يا أبا يزيد : تقرب إلينا بما ليس عندنا ، فقال : يا رب ؛ وما الذي ليس عندك؟ فقال : الذل والافتقار. ه. وقال شيخ المشايخ القطب الجيلاني رضى الله عنه (أتيت الأبواب كلها ، فوجدت عليها الزحام ، فأتيت من باب الذل والافتقار ، فوجدته خاليا ، فدخلت منه ، وقلت : هلموا). أو كما قال. وقال الشاعر :
تذلل لمن تهوى فليس الهوى سهل (٢) |
|
إذا رضى المحبوب صح لك الوصل |
وقولوا عند دخولكم الحضرة : شأننا حطة ؛ أي : شأننا السفليات دون العلويات ، فالسلوك من باب السفليات واجب ، وإلا فلا وصول ، فكل من سلك من باب السفليات طهر من البقايا ، وتكاملت فيه المزايا ، فيصلح لدخول الحضرة ،
__________________
(١) الأبيات للسرى السقطي ، كما فى زاد المسير لابن الجوزي.
(٢) راجع التعليق على هذا الشطر ص ١٠٢.